ابن الراوندي يمعن في الدهاء والمكر؛ فهو يعلن في أول بحثه أنه لا يعمل شيئاً سوى أنه يردد أقوالاً جرت على ألسنة البراهمة. في رد النبوات. وسواء أكانت هذه الأقوال من آثار الفكر الهندي أم من اختراع ابن الراوندي فهي تتلخص فيما يلي: إنكار للنبوات عامة ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، نقد لبعض تعاليم الإسلام وعباداته، ثم رفض في شيء من التهكم للمعجزات في جملتها. فأما الرسل فلا حاجة إليهم لأن الله قد منح خلقه عقولاً يميزون بها الخير من الشر ويفصلون الحق عن الباطل، وفي هدي العقل ما يغني عن كل رسالة. يقول ابن الراوندي:(إن البراهمة يقولون إنه قد ثبت عندنا وعد خصومنا أن العقل أعظم نعم الله سبحانه على خلقه، وأنه هو الذي يعرف به الرب ونعمه، ومن أجله صح الأمر والنهي والترغيب والترهيب. فإن كان الرسول يأتي مؤكداً لما فيه من التحسين والتقبيح والإيجاب والحظر، فساقط عنا النظر في حجته وإجابة دعوته؛ إذ قد غنينا بما في العقل عنه، والإرسال على هذا الوجه خطأ. وإن كان بخلاف ما في العقل من التحسين والتقبيح والإطلاق والحظر فحينئذ يسقط عنا الإقرار بنبوته). وسيراً في هذا الطريق العقلي المزعوم يرى ابن الراوندي أن بعض تعاليم الدين منافٍ لمبادئ العقل، كالصلاة والغسل والطواف ورمي الحجارة والسعي بين الصفا والمروة اللذين هما حجران لا ينفعان ولا يضران. على أنهما لا يختلفان عن أبي قبيس وحراء في شيء، فلم امتازا على غيرهما؟ وزيادة على هذا أليس الطواف بالكعبة كالطواف بغيرها من البيوت؟ والمعجزات أخيراً غير مقبولة في جملتها ولا في تفاصيلها؛ ومن الجائز أن يكون رواتها، وهم شرذمة قليلة، قد تواطأوا على الكذب فيها. فمن ذا الذي يسلم أن الحصى يسبح أو أن الذئب يتكلم؛ ومن هم هؤلاء الملائكة الذي أنزلهم الله يوم بدر لنصرة نبيه؟ يظهر أنهم كانوا مفلولي الشوكة قليلي البطش، فانهم على كثرتهم واجتماع أيديهم وأيدي المسلمين معهم لم يقتلوا أكثر من سبعين رجلاً. وأين كانت الملائكة يوم أحد حين توارى النبي صلى الله عليه وسلم بين القتلى ولم ينصره أحد؟ وبلاغة القران على تسليمها ليست بالأمر الخارق للعادة، فإنه لا يمتنع أن تكون قبيلة من العرب أفصح من القبائل كلها، ويكون في هذه القبيلة طائفة أفصح من البقية، ويكون في هذه الطائفة واحد هو أفصحها. وهب أن محمداً صلى الله عليه وسلم غالب العرب في فصاحتهم وغلبهم، فما حكمه على العجم الذي لا يعرفون هذا