كان جواباً حاسماً، ولكن رئيس الجنود جمع شتات شجاعته وصاح معترضاً:
- وكيف نتركها لكم؟ هذا لن يكون
وقبل أن يلفظ الحرف الأخير دوى صوت الطلقة التي أطاحت قبعته. . .
- هاه! هيا سيروا، ولا يلتفتن أحد وراءه. . .
وكان أول من لكز حصانه رئيس الجنود وقد ملكه الذعر فأرسل العنان لفرسه لا يلوي على شيء، وأرسلنا الأعنة لخيلنا، نريد أن نبلغ (الحان) قبل المغيب.
لاحت لنا بيوت الشعر من قرية الحان وبين الشمس وبين أن تغيب قليل، وكانت خيولنا تسير ببطء وتثاقل، كأنما تحس بما عليها من عار وخزي، وكان الجنود ساهمين لا ينبس أحدهم ببنت شفة، فكأن الخوف والخجل تكاتفا على إظهارهم بمظهرهم هذا الذليل؛ وسرت خلفهم منعزلاً عنهم أفكر في هذه المهزلة التي أكرهنا على تمثيلها. فلما لاحت لي أطلال (الحان) العتيق تحيط بها بيوت الشعر عنت لي فكرة، فعزمت على أمر.
تلقانا مختار القرية، الذي كنت به وبأهل قريته عارفاً، بخير ما يتلقى المرء، ولما ترجلت انتحيت به ناحية وقلت له:
- أريد نومان
فرفع إلى رأسه ثم ألقى على أصحابه الجنود نظرة أعادها إلي في دهشة وتساؤل، فتبسمت وقلت:
- لا تخش شيئاً، لست أجهل أن نومان طريد الحكومة ولكني أطلبه
فحرك كتفيه باستسلام وقال:
- كما تشاء
ومضى، ولم تكن إلا برهة حتى عاد وأسر إلي:(هو سينتظرك عند الجدار الغربي من الحان)، فيممت المكان الذي ذكر، فلاح لعيني فتى طويل القامة متين البناء، ملق عباءته على رأسه، ومرخ لثامه على وجهه، وفوق منكبيه تنوس ضفيرتان بلون الليل على ثيابه البيضاء، قد اقترن حاجباه فوق اللثام، ولمع مقبض خنجره خلف الحزام؛ ومذ رآني خف إلي مصافحاً فتعانقنا، وبادرته: