فلمعت الابتسامة خلف اللثام الكثيف، وقال بلهجة الحازم الواثق:
- لعينيك أبا خالد، فسيبلغك خبري. . .
وابتعد عني يتخطى الأطناب متغلغلاً بين البيوت، وعاد بعد يسير معتلياً صهوة فرسه وقد تمنطق بحزامين من الرصاص وبندقيته في يده، فلما بلغ موقفي لكز الجواد وجال على ظهره جولة ثم قذف بالبندقية في الهواء وتلقفها بأصابعه والجواد يعدو، ثم هتف بي:
- إلى اللقاء، فاتنظرني
وأتبعته نظري وقد سار في الطريق الذي جئنا منه حتى حجبه عن عيني الغبار الثائر
تعددت الطلقات تمزق سكون الليل البهيم، فانتبه رفاقي بعد أن أخذ الكرى بمعاقد أجفانهم فهوموا، وأرجف من في مضيف المختار من رجال القرية أسماعهم إلى الأصوات برهة، ثم انصرفوا إلى ما هم فيه من حديث؛ أما المختار فقد نظر إلي نظرة المستفهم، فأجبته بابتسامة الخبث وقد فهمت ما يريد؛ فهز رأسه وتمتم بكلمات غير مفهومة. وكانت أصوات البنادق لا تزال تلعلع حيناً بعد حين، آناً متفرقة وطوراً متوالية متقاطعة؛ وبعد هنيهة سكت كل شيء، فوجب قلبي وتوجست خوفاً من هذا السكون، وقد حدثتني النفس بمصاب نومان، غير أني طردت أفكار السوء وخرجت من المضيف.
كان ليل البادية زاهياً، نجومه الوضيئة المنتثرة في نواحي السماء الزرقاء، ونسيم أول الربيع البليل يعبث بأروقة البيوت وكواسرها، وعواء الكلاب يتردد في أطراف المنازل تارة وينقطع أخرى، ولاح لي (الحان) كشبح جبار أسود حاثم في الفلاة المترامية الأطراف، فوضعته نصب عيني وأصخت بسمعي إلى الطبيعة الساكنة.
كم هي رهيبة هذه القناطر المعقودة والأقواس المتتالية في ردهات (الحان) العتيق!
كم هي مهيبة هذه الأعمدة المتوازية التي تملأ أبهاءه مشققة السطوح مهشمة الرؤوس! وهذه