الجدران التي لم يذهب من حجارتها، على كر القرون والعصور، إلا ما أخذ أثافي للقدور وأركاناً للمواقد! لقد جلت في قاعات هذا القصر القديم ونظرت خلال خروق السقوف من غرفة إلى الكواكب الزاهرة، ثم رقيت الجدار وأرسلت بصري يجوب أنحاء البادية، ولكن عيني لم تقع إلا على فلاة موحشة سوداء ونجوم تليها نجوم لا يبلغها حصر، ويعيا عن عدها الفكر.
وانتابتني الهواجس مرة أخرى، ولكن الغبار القاتم الذي ثار عند مد البصر قشع غيومها؛ فقد ميز سمعي في هدأة الليل وقع حوافر الشياه على رمال الطريق فانجابت عني الشكوك وملأ قلبي الفرح وقد تبينت صوت نومان يحث الشياه على المسير.
ونبحت الكلاب هذا الفوج من الطارقين فأوقدت النيران وحمل كل قبساً ليتبين هذه الغبرة الغريبة، قلما اقترب القادمون رأيت على ضوء المشاعل منظراً يملأ الصدور حبوراً ويثير العواطف والشعور: قطيع من الغنم يتلوه أربعة رجال مشمرو المآزر ملثمو الوجوه، قد كتفت أيديهم مكن خلاف وعلقت بنادقهم في الأعناق، يسوقهم سوق الماشية فتى متين الهيكل، شديد الأسر، ملطخ الثياب بالدماء القانية، قد اعتلى صهوة جوادٍ أشقر، تنوس على كتفيه ذؤابتان طويلتان كلما حرك رأسه ليرد تحية محي.
فقزت عن الجدار وعدوت أشق الجموع إلى نومان هاتفاً
- المذبَّة المذبَّة أبا صخر!
- أبشر أتاك الخير. . .
ومد ذراعيه فاعتنقته.
كان لهيب النار الموقدة في ساحة (الحانة الكبرى) يتلوى كرؤوس الثعابين فترقص له الظلال على الأقواس الرهيبة والأعمدة المرمرية الهائلة، وكان نومان قائماً في وسط الساحة معتمداً على بندقيته ينظر إلى أسراه نظر الصقر إلى الفريسة، كرمز للبطولة والنبل.
رفع البطل رأسه ثم أداره ببطء على الحاضرين ثم قال:
لقد اجترأ هؤلاء فقطعوا الطريق على فلان وصحبته، فأشهدكن أنه حر في حكمه عليهم. . . أعندك ما تقول يا أبا خالد؟