قبله على الأديان والنبوات أثارت الأوساط الإسلامية على اختلافها، وحفزتها إلى الدفاع عن معتقداتها. فأبو علي الجبائي الكبير (المتوفى سنة ٣٠٣هـ) وابنه أبو هاشم (المتوفى سنة ٣٢٤هـ) المعتزليان، وأبو الحسن الأشعري (المتوفى سنة ٣٢٤هـ) زعيم أهل السنة رأوا من واجبهم أن يردوا على ابن الراوندي؛ ومحمد بن الهيثم الفلكي والرياضي (المتوفى سنة ٤٣٠هـ) أخذ على عاتقه أن ينقض رأي الرازي في الإلهيات والنبوات.
إلا أن الإسماعيلية بوجه خاص قد بذلوا في هذا المضمار همة عالية ومجهودا صادقا؛ ومعظم الردود على منكري النبوة إنما وصلتنا عن طريقهم. وليس هذا بغريب، فأن الإسماعيلية في تعاليمها الدينية ومبادئها السياسية تقوم على النبوة وتعتمد عليها.
في هذا الجو المملوء بالحوار والمناقشة في موضوع النبوة الخطير نشأ الفارابي، وكان لا بد له أن يقاسم في هذه المعركة بنصيب. لاسيما وهو معاصر لابن الراوندي والرازي معا؛ فقد ولد سنة ٢٥٩ هجرية وتوفى سنة ٣٣٩. ويروى المؤرخون أنه كتب ردين، أحدهما على بن الراوندي والآخر على الرازي؛ ونأسف جد الأسف لأن هذين الردين لم يصلا إلينا. وقد نستطيع أن نتكهن بموضعهما على ضوء الملاحظات السابقة. فإنه لا يتوقع أن يرد الفارابي المنطقي الفيلسوف على ابن الراوندي إلا في شيء يتصل بالمنطق والجدل اللذين أخل الأخير بقواعدهما، أو في مبدأ من مبادئ الفلسفة والإلهيات التي خرج عليها.
ولابد أن يكون الفارابي، وهو الأرسطي المخلص والمعنى بالسياسة والاجتماع، قد أخذ على الرازي كذلك أشياء كثيرة، في مقدمتها التهجم على أرسطو وإنكار مهمة الرسول السياسية والاجتماعية. على أن الفارابي لم يكتف بهذا الموقف السلبي وهذا الدفع الذي إن رد عن النبوة بعض خصومها الحاضرين فهو لا يمنحها أسلحة تستعين بها على هجمات المستقبل. وعلى هذا أجهد نفسه في أن يقيم النبوة على دعائم عقلية ويفسرها تفسيرا علمياً، وبذا استطاع أن يبطل كلمة أنصار العقل الموهومين، ويدحض دعوى المتفلسفين الذين يزعمون أن الدين لا يمكنه التآخي مع الفلسفة، ولا القرب منها. ومن غريب المصادفات أن هذه الدعائم الجديدة ترجع إلى أصل أرسطي؛ فكأن الفارابي قد تمكن في نظرية النبوة أن يصوب إلى هدفين ويحظى بغايتين، فأسس الأديان تأسيسا عقلياً فلسفياً وأبان للناس أن أرسطو الذي تهجم عليه الرازي وأنكره آخرون جدير بحظ كبير من الإجلال والتقدير.