صوتاً وصدى) فتصطف له أرواح الصحراء ترى، في عجب، سحر الحياة الجديدة!
وفي خطفة من خطفات الروح تلفت القلب صوب الجنوب فرأي المدينتين الغريقتين في أمواج الرمال تتحديان بصمتهما وعزلتهما ضجة الدنيا بالشهوات، وسعارها بالآفات، فحييتهما تحية القدوم على أقرب الحدود لهما، وأخذت الطمأنينة والسلام لنفسي منهما. . .
وفي مغرب الشمس وافينا (الرطبة) أول محطة عراقية، فكان أول صوت رن في آذاننا صوت الحاكي يغني أغاني من (دموع الحب) في مقهى هناك وقد التف حوله السمار في إنصات وطرب. فقلنا ها هي ذي مصر تسبقنا إلى العراق، فلا وحشة ولا اغتراب. ثم وجدنا من البشاشة لنا والأنس بنا ما إنسانا أننا في صحراء تبعد عن مصر بأربعين ساعة بالوسائل السريعة!
وما غشى الليل وحبك الظلام حتى واصلنا السير فكنا في الصحراء كسر في ضمير حليم! وجعلنا نسرح الطرف من خلال زجاج السيارة وقد غشيه الغبار فلا نرى غير نجوم وهنانة وأمانة من طول الوقوف على هذا الديموم.
وجاءت سكرة النوم فهمدت الأجساد ونام كل (على نفسه) في مجلسه، واستراحت المقل من التصويب والتصعيد في الأفق البعيد، وهكذا نمنا على دوي الرحى. . . ولم يوقظنا إلا وقوفها في (الرمادي) في الهزيع الأخير. . . فألممنا بها للتأشير على جوازات السفر. . . ثم وصل ما انقطع. . . اطراد السير والنوم حتى نرد بغداد مع الصباح. . .
(هذه هي بغداد أيها الركب؟) هكذا قال الصبح الوليد. . . فمسحت جفوني، وجعلت أتلفت عن شمالي ويمني لأرى مدخل دار السلام. . . المدينة التي احتضنت نتاج مكة ويثرب ودمشق وأثينا وروما والمدائن والإسكندرية، وزاوجت بين ألوانه، ومزجت ثقافاته حتى رأت الدنيا من تفاعلها عالماً جديداً غريباً. . .!
المدينة التي اضطلعت بالوصاية على ميراث الدين والعلم في زمن الجهل فربا في أيدي بنيها الممثلين لأجناس الناس وأديانهم وألوانهم، فجمعوا خلاصة ما في الإنسانية من تسامح وتلاقٍ على المعنى الموحد والرأي المجتمع.
المدينة التي كان الحج إليها واجباً على من كان يريد أن يتملى من دنيا القرون الوسطى في عظمة ملوكها وبطولة قوادها وفحولة علمائها وبلاغة صناع الكلام بها وضجة سوامرها