بمحاكاة الشعراء الأقدمين كهوميروس وفرجيل ودانتي والخيام، والمحدثين كشيلر وجيته وهيجو، وترجمتهم والتحدث عنهم، لأن الفن يجمعهم طراً في صعيد واحد، ويمحو بينهم فوارق الزمان والمكان.
وما أعظم الفرق بين هذا الإعجاب النبيل بمتقدمي الشعراء، وبين ما نراه في العربية من وثوب بعض الشعراء ببعض، ووقوع حماد في بشار، وحملة ابن الرومي على البحتري، وحقد دعبل على الطائي؛ أذهلهم التناحر على متاع الدنيا عن الصلة السامية التي يصلهم بها الفن؛ وقد نعلم أن البحتري كان يقدم أبا تمام، وأن المعري كان يعظم أبا الطيب، ولكن ذلك التقدير لم يتخذ شكلا فنياً، ولم يبرز في عالم الشعر قصيداً رائعاً يفيض بتقديس الفن وتبجيل رجاله. وبينما كان ذاك التحاقد ديدن شعراء العربية فيما بينهم كان جهلهم بشعراء الأمم الأخرى مطبقا.
لقد حجب العرب عن تلك العوالم الفنية إعراضهم عن تراث اليونان الفني، ودعاهم إلى ذلك الأعراض تمكن الملكة البيانية منهم؛ تمكنت من نفوسهم في البادية، حيث لا تتوفر أدوات فن من الفنون سوى فن البيان الذي لا يحتاج إلى أدوات غير صفاء الذهن وطلاقة اللسان، وقوى اعتداد العرب بتلك الملكة وتوفرهم عليها نزول القرآن الكريم الذي زادهم كلفا بالفصاحة، وكان دائماً أساس ثقافتهم التي يؤخذون بها من الصغر. فالإنجليز اتصلوا بتراث اليونان وهم بعد مقصرون دون جميع غايات الثقافة، فاغترفوا من جميع مناهله؛ ولم يتصل العرب به وبغيره من تراث الأمم إلا بعد أن توطد أدبهم وتمكن سلطانه من نفوسهم، فشمخوا به على سائر الآداب، واستغنوا به عن كل الفنون.
لذلك لم يحفل العرب بالتمثيل، ولم يزدهر بينهم التصوير والنحت، ولم يتعديا حدود الصناعة ذات الغرض المادي إلى حدود الفن السامي الذي هو غاية نفسه، واقتصروا من التصوير والزخرفة والنحت على ما كان يزين قصور كبرائهم من تهاويل ودمي قليلة الحظ من الفن، لا تحمل وراءها من المعاني السامية ما تحمله الصور والتماثيل الفنية؛ واستبد الأدب بالتعبير عن أسمى مشاعر العرب وأرقى أفكارهم. وإذا تذكرنا أن الفنين الآخرين سالفي الذكر - الموسيقى والرقص - لم يتخلصا من ربقة المادية وشبهة الشهوات إلى عوالم الفن المتسامي بالنفوس، وظلا دائماً مقرونين بالشراب والقصف وخلع العذار، تبين