اختلف نظري إلى الحياة، وتبدلت المشاهد في عيني، فكأن الدنيا كانت في ظلام، حتى طلع في سمائه بدراً منيراً فأصبحت أرى كل شيء جميلاً في بصري: هذا السطح المشرف على الفضاء الرحيب، سطح دارنا في (الأعظمية)، وهذا النخيل الممتد إلى غير ما نهاية، وبغداد التي تلوح منائرها وقبابها كأنها معلقة في السماء حيال الأفق، ودجلة التي تبدو من خلال الأغصان لامعة كصفحة المرآة المجلوة تشق عبابها الزوارق، تتمايل شرعها البيض مع نسيم المساء الناعش الخفيف، والبدر الذي طلع من الشرق يبدو منه حاجب ويختفي حاجب وراء نقاب من الغيوم. . . وهذا الطريق الذي لم تمتد إليه يد الحكومة بالتعبيد فبقى على فطرته وجماله لم تشوهه كف الإنسان، يظهر تارة، ويلتوي تارات، ويضيع بين النخيل ويضل الطريق. . . والفلاحين الذي يرجعون إلى دورهم حين تعود الشمس إلى خدرها، ويزدحمون على هذا الطريق الشعري الضيق، هم ودوابهم ومواشيهم تطنطن الأجراس في أعناقها والقطعان يسوقها الرعاة الذين تنكبوا عصيهم ثم ساروا وراءها يزمرون أو يغنون، وهؤلاء الأطفال من تلاميذ المدارس الذين يلعبون في هذه الرحبة، يتقاذفون الكرة يتصايحون ويتراكضون، فإذا أمسك أحدهم بها ضربها برجله فانطلقت تشق الفضاء كأنها القنبلة، ووقف الصبية صامتين قد علقوا أنفاسهم وتبعتها عيونهم، تبصر مسيرها، فإذا هبطت واستقرت على الأرض عادوا يركضون ويصيحون.
أصبحت أرى كل شيء جميلاً في عيني حبيباً إلي: الفلاحين الآوين إلى بيوتهم، والأطفال العاكفين على كرتهم، والدواب والمواشي. . . وأسمع في كل صوت أغنية عذبة، أسمعها في حفيف الأوراق، وزقزقة العصافير، ونباح الكلاب، ودوي الرعد. . . وأرى الجمال في ظلام الليل الدامس، كما أراه في صفحة البدر المنير، وأبصره في الصحراء المقفرة، كما أبصره في الروضة المزهرة، وأسمعه في صفير الرياح الرعب، كما أسمعه في تغريد البلبل المطرب، وألمسه في الخريف كما ألمسه في الربيع؛ بل إني لأعجب من هؤلاء النظامين المتشاعرين الذين يسميهم الناس شعراء، كيف يعمون عن صفحة الكون، ثم يذهبون فيحدقون في صفحات الكتب، وينظرون فيها بالمجهر: هؤلاء المقلدين الذين يظنون أن الخريف معناه الوحشة أبداً والموت والكآبة، وأن معنى الربيع الأنس دائماً والبهجة والسرور، كأن العواطف البشرية تسير على التقويم الفلكي، وتدور مع الأيام. . . فليس