للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

على الشاعر إلا أن ينظر في التقويم حتى يرى أيوم حزن هو، أم يوم سرور؟! وكأن في وجه الأديب زجاجتي فوتوغراف لا تريان إلا ما في الوجود، لا عيني إنسان يحس ويشعر.

أين إذن عاطفة الشاعر؟ وهل يرى الشاعر الحزين اليائس ربيعاً مشرقاً جميلاً؟ ألا يرى في الربيع الوحشة والكآبة والحزن؟ وهل يشعر المسلول القانط بجمال الزهر؟ والشاعر الفرح؟ ألا يرى في الشتاء وفي الخريف جمالاً وبهجة، ويبصر فيهما ورداً وزهراً؟

إن في شعر هؤلاء المتشاعرين المقلدين كل شيء إلا الحياة، إلا العاطفة، إلا الروح. هو شعر ميت، تمثال حسناء، ولكنه من الشمع!

لقد ظهر هذا الصديق فجأة في طريقي، فملك علي أمري، وأخذ بيدي فسلك بي طريقاً جديدة، حتى نأى به عن الناس فأصبحت لا أرى في الدنيا غيره، ولا أبصره سواه، وصب في نفسي عزيمة وقوة، فأحسست بالنشاط في جسمي وروحي، ودفعني إلى أداء الواجب علي، فوفيته على وجهه، وساقني في سبيل الاستقامة والشرف، وسما بي عن (الأنانية) والاستئثار فأضحيت أشفق حتى على أعدائي المخاصمين، وأعطف حتى على المجرمين والساقطين؛ وفتح لي مغاليق هذا الكون، فإذا وراء هذه المظاهر دنيا من الجمال والجلال والسحر والفتون، وإذا حيال هذه الدنيا دنيا أكبر، وأحفل بالكائنات، هي في نفسي، فرأيت وأبصرت ونعمت وانتفعت. . .

لقد دفعتني هذه الصداقة إلى الصلة بربي، والقيام بواجبي، والتعلق بأهلي، فلست أريد بعدها شيئاً، فخذوا الدنيا كلها، حسبي أني أخذت منها صديقاً.

(بغداد)

علي الطنطاوي

<<  <  ج:
ص:  >  >>