فانهم قد أكثروا الحجَّابا ... واستوقفوا لردَّنا البوابا
وإن حَدَّ الصارِم القرضابا ... والذّابلات السُّمر والعرابا
ترَفعُ فيما بيننا الحجابا
ولاشك أن طبقة الشعراء المتكسبين أدنى طبقات الشعراء نفوساً، وأبعدها عن الصلاح والتقوى، وهي طائفة تتخذ الشعر وسيلة لجمع المال، ولا يهمها في دنياه غيره، ولا تطمح نفوسها إلى وظيفة كوظيفة النبوة تكليفاً من الكمال الروحي ما ليس في طبيعتها.
وإن هذه الحادثة لتدل على مقدار ما بلغ إليه المتنبي في ذلك قال: أذكر وقد وردت في صباي من الكوفة إلى بغداد، فأخذت بجانب منديلي خمسة دراهم، وخرجت أمشي في أسواق بغداد، فمررت بصاحب دكان يبيع الفاكهة فاستحسنتها ونويت أن أشتريها بالدراهم التي معي، فتقدمت إليه وقلت: بكم تبيع هذه الخمسة بطاطيخ! فقال بغير اكتراث: أذهب فليس هذا من أكلك، فتماسكت معه وقلت: يا هذا دع ما يغيظ واقصد الثمن، فقال ثمنها عشرة دراهم، فلشدة ما جبهني ما استطعت أن أخاطبه في المساومة، فوقفت حائراً، ودفعت له خمسة دراهم فلم يقبل، وإذا بشيخ من التجار قد خرج من الخان ذاهبا إلى داره، فوثب إليه صاحب البطيخ من الدكان ودعا إليه وقال: يا مولاي بطيخ باكور، بإجازتك أحمله إلى البيت فقال الشيخ: ويحك بكم هذا؟ قال بخمسة دراهم، قال بل بدرهمين، فباعة الخمسة بدرهمين وحمله إلى داره، وعاد إلى دكانه مسروراً بما فعل، فقلت له: يا هذا ما رأيت أعجب من جهلك! استمت على في هذا البطيخ، وفعلت فعلتك التي فعلت، وكنت أعطيتك في ثمنه خمسة دراهم فبعته بدرهمين محمولاً! فقال: أسكت. هذا يملك مائة ألف دينار، قال المتنبي: فعلمت أن الناس لا يكرمون أحدا إكرامهم من يعتقدون أنه يملك مائة ألف دينار، وأنا لا أزال على ما تراه حتى أسمع الناس يقولوا إن أبا الطيب قد ملك مائة ألف دينار.