أكرمني الله برسالته. قلت ليلة لغلام كان يرعى معه لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة فأسمر كما يسمر الشباب، فخرجت لذلك حتى جئت أول دار من مكة أسمع عزفاً بالدفوف والمزامير لعرس بعضهم، فجلست لذلك فضرب الله على أذني فنمت، فما أيقظني إلا مس الشمس، ولم أقض شيئاً. عراني مرة أخرى مثل ذلك.
وهذا كله لم يكن المتنبي ليجهله، وما كان له أن يقدم على دعوى النبوة معه. ولعل الذين نسبوا إليه هذه الدعوى قد شعروا شيء من هذا حينما جعلوا له قرأنا يعارض به القرآن الكريم، لأنهم رأوا أن الشعر وحده لا يصح أن يستقل بأمر النبوة، أو لا يلتئم معها. ومن ذلك الذي نسبوه إليه وذكروا أنه زعم أنه قرآن أنزل عليه: والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي أخطار، امض على سنتك، واقف أثر من كان قبلك من المرسلين، فان الله قامع بك زيغ من ألحد في الدين، وضل عن السبيل.
وكم يكون الشعر أبعد من وظيفة النبوة إذا كان صاحبه يتكسب به كصاحبنا المتنبي، فإنه نشأ شاعراً مداحاً يتكسب بشعره، ويسأل به، ومن هذا قصيدته في مدح محمد بن عبيد الله العلوي، ومطلعها:
أهلاً بدارٍ سباك أغيدُها ... أبعدُ ما بان عنكَ خردَّها
وقد ذكر فيها أن ناقته حملته إلى هذا الممدوح:
إلى فَتَى يُصدر الرماحَ وقد ... أنهلها في القلوب مُوردُها
له أَياد إليَّ سالفةٌ ... أعُدُ منها ولا أُعَدِّدُها
ثم طفق يمدحه إلى أن قال:
وكم وكم نعمة مُجَلَّلةٍ ... ربيتها كان منك مولدُها
وكم وكم حاجةٍ سمحت بها ... أقرب مني إليّ موعدُها
ومكرمات مشت على قدم ال ... بر إلى منزلي تَردُّدُها
أقرّ جلدي بها عليّ فلا ... أقدرُ حتى الممات أجحدُها
فعد بها لا عدمتُها أبداً ... خيرِ صلات الكريم أعودُها
وقد عذله أبو سعيد المجيمري في ذلك العهد على تركه لقاء الملوك وامتداحهم، فقال له:
أبا سعيدٍ جَنِّب العتابا ... فرُبَّ رأى أخطأ الصوابا