ربيعي الثاني عشر حينما فتحت عيناني على صورة من صور الحياة المؤلمة التي تركتني أرزح تحت كلكلها وأصبحت حياتي بعدها جافة قاسية خالية من المباهج التي تساعد المرء على اجتياز ما قد يتخلل طريقه من حصى وأشواك
مات أبي وأنا صغير، ولم يترك لنا أنا وأمي من حطام الدنيا سوى أساس عتيق بال في مسكن صغير تداعت أركانه، وتشققت سقوفه وجدرانه، وكان ذلك المسكن لجار لنا غني كنا نؤدي إليه أجرته من دون مطل أو تسويف. وكان أبي بنّاء يتناول في يومه بضعة قروش يأتي بها إلينا وهو فرح مغتبط مع ما يحيط به من فاقة وبلاء. فيملأ البيت بهجة ورواء، ويحوله إلى قصر من أوفر القصور سعادة وأعظمها هناء.
وبالرغم من قدم العهد فأنا أذكر ذلك اليوم الرهيب يوم أن عرفت أن ذلك الإنسان الذي يستنزف قواه ليدفع عنا غائلة السغب والعرى قد أخرسه الموت ونام نومه الأبدي.
ففي أمسية من أمسيات الشتاء الباردة، وفي ليلة دجوجية الجناح غدافية الأديم، كانت الريح صر صرا عاتية، وكرات الجليد تتساقط على جوانب بيتنا المتداعي فيسمع لسقوطها صوت كأصوات الأرواح الهائمة. طرق الباب فدخل رجلان يماثلاننا في الفاقة والبؤس يحملان جثة أبي مهشمة أو كتلة من لحم ودم. ولقد نسيت كيف مرت علينا تلك الليلة المشؤومة، غير أنني أذكر أن جثمانه ظل مسجى طول اليوم التالي حتى شعر بذلك من لم تخل قلوبهم من عناصر الرحمة والشفقة فأمدونا بقليل من المال جهزنا به فقيدنا وأودعناه مرقده الأخير. ومما زاد لوعتنا أن الطبيب الذي قام بفحص الجثة قرر أنه كان مريضاً بعلة القلب فلم يستطع احتمال العمل المجهد تحت حر الشمس في أعلى البناء فأصابه دوار عرضه للسقوط والموت السريع. وكأن ذلك الأب الشفيق كان يخفي علته هذه عن أمي خشية قلقها أو محاولتها منعه من متابعة عمله المضني، وقد أصيبت تلك التاعسة على أثر هذه الصدمة التي بلينا بها بمرض عضال أقعدها عن مواصلة السعي لكسب القوت ودفع أجرة المسكن، ومع هذا فقد كانت تتحمل الفقر والشقاء والمرض والإعياء بصبر واستسلام.
لقد ألقت الأقدار بي من حيث لا أشعر في بيداء هذه الحياة وضربتني ضربة قاسية لا رفق فيها ولا هوادة، وأرادتني أحداث الزمان على أن أحمل حملاً أعجز عنه وأنا صبي صغير