فتلاشت ابتسامتي واربد وجهي، وعادت الحياة في نظري هماً ناصباً. أمي مقعدة لا تستطيع حراكا وهي تحتاج إلى قوت ودواء، وصاحب المسكن يطالبنا بأجرته في نهاية كل شهر، وعلينا أن نؤديها إليه صاغرين وإلا كان الشارع لنا مأوى، وقد أشار عليّ بعضهم بإيداع المريضة في إحدى المستشفيات، فقبلت ذلك على مضض، ولكن إدارة المستشفى أبت قبولها بحجة أن مرضها عضال لا يرجى منه شفاء. على أنني مع ذلك لم أيأس ولم أحزن رغبة في أن أظل بجانبها أخدمها وأروح عنها ما تجده من آلام محرقة تحاول جهد طاقتها أن تخفيها عني فتتكلف لي الابتسام، ابتسام المريضة الصبور المستسلمة. لقد ذاق أطفال قبلي مرارة اليتم، وذاق الكثيرون مثلي مرارة الحرمان والعدم، ولكن آلامهم لم تك تشبه آلامي: إذ كانت آلامي آلام صبي في أول مرحلة من مراحل حياته يرى تحت نظره أعز الناس لديه يدنو من الموت أو يدنو الموت منه بخطى سريعة فلا يستطيع التخفيف عنه أو إسعافه بجرعة دواء.
أجل كنت أذرع البلدة وأجوس خلال شوارعها باحثاً بحث اليائس عن لقمة أتبلغ بها أو عن عمل يكفل العيش لي ولتلك المريضة المدنفة، وكنت إذا حصلت على بضع دريهمات أضن بها على نفسي فأعود وأنا أطفر فرحاً فأشتري لها ما تحتاج إليه من غذاء ودواء وأوفر الباقي أجرة لمسكننا الحقير.
وقد كنت أستطيع أن ألجأ إلى تلك الطريقة التي يلجأ إليها الكثيرون من أمثالي - أعني السرقة - وكانت أحياناً تتجسم هذه الفكرة في مخيلتي حينما أصاب بتلك الآفة الغشوم - آفة الجوع - ولكنني لا ألبث أن أرجع عن هذا العزم إذ أربأ بنفسي أن تنحط إلى هذه المنزلة مفضلاً كل شقاء على الوقوع في هذا المنحدر الرهيب.
وكنت أعرف أيضاً أن هناك سبيلاً أفضل من هذا كله أقصر مدى وأقل تعباً وجهداً. سبيلاً ينتهي بي إلى تخفيف متاعبي وآلامي وينقطع به همومي وأحزاني. فقد كان في استطاعتي أن أقصر ساعات عذابي بالانتحار، ولكن ذكرى المريضة المقعدة كانت تبعد عني هذا الخاطر، وتجعلني أبتسم لليأس المميت في ظل الحياة التعيسة التي أحياها.
سدت في وجهي أبواب الرزق، وأمي تزداد مرضاً على مرض فلجأت إلى بيع أثاثنا البالي، فبدأت بالفراش الذي أنام عليه والكرسي الذي أجلس فوقه وجميع الأمتعة الحقيرة