التي يضمها مسكننا، فنفذ ذلك كله وهو مبلغ تافه لا تأثير له في دفع الشقاء. ومما زاد في بليتنا أن صاحب المسكن أخذ يطالبنا بتأدية ما تأخر له عندنا من الأجرة التي لا نملك منها شيئاً، وأمهلنا بذلك ثلاثة أيام وإلا طردنا دون شفقة أو ورحمة.
طوفت في هذه الأيام الثلاثة في الشوارع ضاوياً متعباً مريض النفس والجسم والفكر، صفر الكف، فلم يفتح علي بشيء حتى أعياني التجوال، وأرهقني اليأس، فرجعت إلى البيت أبكي بدموع غزار.
انقضت المهلة المعينة لتنفيذ وعيد ذلك الظالم، ولم يبق منها سوى ليلة واحدة لم يغمض لي فيها جفن ولم يرقأ لي دمع. وشعرت آنئذ بجميع ضروب اليأس، وذقت من الألم أشكالا، ثم اعتراني بحران عميق، أصبحت فيه أشبه بالصنم. وعندما انبلج الصبح ولاح لي وجه ذكاء بدا وجه أمي النحيل الشاحب، وهي تتنفس تنفساً خافتاً، فانبثق في لبي خاطر استجبت له: هو لقاء صاحب المسكن واستعطافه علني أجد بذلك من الضيق مخرجاً. فنهضت متثاقلاً، وأنا ضائع الفكر مضطرب البال، أقرب إلى اليأس من ذلك الغريق الذي يرتجف وسط الخضم وقد تعلق بأوهى الأسباب أملاً في النجاة.
وعندما وصلت قصر صاحب الدار تجلدت وطرقت الباب ففتح لي خادم كنت أجد عنده بعض العطف، فسهل لي لقاء سيده فدخلت عليه وأنا أرتجف كريشة في مهب الريح.
تذللت بين يديه واستعطفته وشرحت له ما أقاسيه من بؤس وهم، واستلهمته ريثما تقضي تلك البائسة فهي على أبواب الأبدية، وكنت أحدثه وهو صامت ساكن لا تطرف عينه ولا يرفع نظره إلي، حتى إذا فرغت من شكواي صرخ في وجهي صرخة جافة قاسية ملؤها العنف والقسوة وختمها بأبشع الشتائم وأقبح النعوت.
يصبر عزيز النفس على الموت والخطر والعذاب والجوع، ولكنه لا يصبر على الإهانة والطرد. يهون على أبي النفس كبيرها أن يرمي في أتون ملتهب يشوي جسمه شياً دون أن تلقى عليه نظرة ازدراء أو كلمة اشمئزاز. ومع هذا لم أحرك ساكناً بادئ ذي بدء بل تصاممت عن سماع كلماته المرة عسى أن تهدأ ثورة غضبه ويثوب إلى رشده ويرفق بي. ولكنه أعاد الكرة وأمعن في طردي وتحقيري بلهجة تفوق الأولى عظماً وهولا، فكانت كلماته هذه كسهم أصاب مركز الصبر من فؤادي فمزقه، فأحسست أن الدم يتصاعد إلى