ألفت ذلك فهي لا تستطيع أن تفطم نفسها عنه؛ وأحسب أنها لو صرفها أهلها عن الشرفة لجنت، فما لها عزاء غيرها ولا سلوى سواها، وإذ كانت ترى كل ما يرى من الشرفة ولا يفوت عينها المفتوحة ما يقع أحيانا بين بعض الرجال والنساء في حيها المكتظ بالناس وكانت لا تخالط إلا أهلها، فليس من المستغرب - بل هذا لا غيره هو المتوقع - أن يغلبها صباها أحياناً فيصدر عنها ما قد يعده المتشددون - وما أقلهم في هذا الزمان - مخالفا لمقتضيات الحشمة، وما هو كذلك؛ ولو قضى على شاب أن يحبس في بيت ولم يؤذن له في أكثر من النظر من الشرفة على حين يرى أنداده جميعا يخرجون متى شاءوا إلى حيث يشاءون لكان من المحقق أن ينتحر، ولكن عايدة لم تنتحر لأن نشأتها جعلتها تألف هذه الحياة، وان كانت لا تعزيها عن الحرمان مما ترى أترابها ينعمن به، وأقله أن تزور أترابها كما يزرنها، وحدهن، وفي غير حاشية من الأهل والآباء والأمهات.
ولكني استطردت عن حكاية صديقي فلأعد إليه، قال:(لعلك تذكر أني كنت جارا لهذه الفتاة - أعني كنت أسكن بيتا يقابل بيتها، وكان لابد أن أراها وأن أعجب بها فأنها كما يقول الشاعر: (بيرنز) - (يكفي أن تراها لتعشقها). . .)
فقاطعته عامدا وقلت:(عفوا!! لو كان بيرنز قد قال هذا لما كان في قوله ما يستحق الذكر، ومن الصعب ترجمة هذا البيت من شعره، ولكني أظن أن الذي أراده هو أن معنى أن تراها أن تحبها. . . أي أنه لا حيلة لمن يراها إلا أن يحبها. . . على كل حال تفضل)
فنفخ وتأفف وقام وتمشى ثم عاد إلى مجلسه فما له صديق غيري يستطيع أن يبيحه دخلته.
وقال بعد هنيهة:(طيب. . . قل ما بدا لك. . . المهم أني أعجبت بها. . . شغلت بها زمنا حتى لكدت أهمل عملي وأسئ إلى نفسي. . . ويجب أن أعترف لك بالفضل في رد ما ذهب من عقلي. . .)
فهممت بأن أقول شيئاً مثل (العفو) أو ما هو من هذا بسبيل، ولكنه أشار إلى فرددت الكلمة التي كانت على لساني ومضى هو في كلامه فقال:(وتعلم أني تركت البيت إلى سواه فراراً منها)
قلت:(أعلم ذلك وأظن أني أشرت به فأن البعيد عن العين بعيد عن القلب)
قال: ولكني أمس مررت من هناك ووقفت أتحدث إلى البواب زمناً وأنا أرجو أن تلتفت