للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

به الحياة إلى أقصى أجل. قال ذلك قائلهم ونهض فأخذ يحفر حفرته. وتناقل القوم بعض الشيء يفكرون في أولادهم وآخرتهم ويذكرون مكة ومن تركوا فيها من أهل وولد ومال. ويذكرون الشام وينظرون إلى ما كانوا يحملون إليها من تجارة ويفكرون فيما كانوا ينتظرون أن يحققوا فيها من ربح. وتقدم رسل قريش إلى الكاهنة يتلاومون في البئر وفي خصومتهم لصاحب الحق. ثم ينهضون والموت يثقل نفوسهم فيعمد كل منهم إلى سنان يخط به حفرته في الأرض.

كل ذلك وعبد المطلب ساكت ساكن لا يقول ولا يومئ ولكنه نهض فجأة وقال بصوته العذب العريض: (يا معشر قريش ما أعجزكم! ها أنتم أولاء تلقون بأيديكم وتنتظرون الموت وتقطعون ما بينكم وبين أهلكم وولدكم من أسباب الحياة، وان فيكم لبقية من قوة وان في ابلكم القدرة على الحركة وفضلا من النشاط لا والله ما أنا بمسلم نفسي للموت حتى يكرهني عليها، هلم فاضربوا في هذه الأرض فلعل الله أن يجد لكم من هذا الضيق فرجا) ووقعت ألفاظ عبد المطلب هذه من نفوس الناس موقع الغيث وإذا الآمال تحيا. وإذا النشاط يتجدد وإذا القوم ينهضون إلى رواحلهم وإذا هم يؤثرون أن يتخطفهم الموت على أن يسعوا هم إليه وينهض عبد المطلب إلى راحلته حتى إذا جلس عليها وزجرها نهضت به وهمت لتندفع ولكن ماذا! ماذا يسمع القوم؟ ماذا يرون؟ هذا عبد المطلب يصيح بأعلى صوته مكبرا وهم يلتفتون فإذا عين غزيرة قد أنفجرت تحت خف الراحلة وإذا هي تفور وإذا الماء ينبسط من حولها فينقع غلة الأرض المحترقة قبل أن ينقع غلة القوم الظماء!.

هلم يا معشر قريش إلى الماء الرواء! قد فجره الله لكم من الصخر الصلد. هلم فاشربوا واسقوا ابلكم وأملأوا مزادكم هلم فانعموا بهذا الماء الصافي النقي البارد في هذه الفلاة القاتمة المحرقة.

والقوم يضجون بالرضى والغبطة وأن للإبل من حولهم لأطيطاً ملؤه الرضى والغبطة أيضاً. ومن ذا الذي زعم أن نفوس الناس وحدها هي التي تجد اللذة والألم وتشعر بالسرور والحزن، روى الناس ورويت الإبل، ورويت الأرض وقالت رسل قريش لعبد المطلب عد بنا يا شيبة إلى مكة فقد قضي علينا وان الذي سقاك في هذه الصحراء وأنقذنا بك من الهلاك هو الذي سقاك في مكة وساق إليك ما تروي به الحجيج.

<<  <  ج:
ص:  >  >>