وإنما هي لله ثم لقريش، وأن كل ما وجد فيها فهو لله ثم لقريش، وإنا لم نشهد أمر السماء حين تنزل إليك ومتى تنزل أمر السماء على الناس إلا من طريق الكهان. فأين الكاهن الذي أمرك أن تحتفر؟ قال: يا قوم خلوا بيني وبين الماء. فوالله لن تبلغوا مني شيئا أنكم تكثرونني بعددكم وعديدكم. ولكن الذي أمرني باستنباط هذا الماء حري أن يردعني كيدكم ويحميني من ظلمكم. أنكم تستضعفونني حين ترون أني أبو واحد ولكن الذي سخرني لهذا الأمر خليق أن يمنحني من الولد من أكاثركم به وأني اقسم لئن منحني من الولد عشرة ذكورا أراهم بين يدي لأضحين له بواحد. وسمع بنو عبد مناف مقالة عبد المطلب فثارت نفوسهم وتعصبوا له وقاموا من دونه يردون عنه عدوان قريش وكاد الشر أن يقع بين القوم ولكن عبد المطلب قال: يا قوم فيم قطع الأرحام وحفر الذمم وإراقة الدماء؟ أني والله ما أوثر نفسي من دونكم بشيء فإن أبيتم أن تؤمنوا لي فهلم إلى حكم فليقض بيننا. قال الملأ من قريش لقد أنصفكم ابن أخيكم من نفسه. فليكف بعضكم عن بعض ولنحتكم إلى كاهنة بني سعد هذيم فما نعرف أبصر منها بمواقع الحكم.
وكانت قافلة قريش تتجهز للرحلة إلى الشام فاجمع القوم أن يصحبها رسلهم إلى الكاهنة في معان. فلما فصلت العير صحبها عبد المطلب في عشرين من بني عبد مناف وأرسلت قريش معها عشرين من بطونها المختلفة ومضى القوم ترفعهم النجاد وتحطهم الوهاد حتى طال بهم السفر ونفد ما كان معهم من ماء واشتد بهم الظمأ واحرق أكبادهم الصدى وغدوا ذات يوم في فلاة مبسوطة يحار بها الطرف دون أن يهتدي إلى أمد ليس فيها عين ولا بئر ولا شجرة ولا عشب وإنما هي ارض ملساء جرداء تقع عليها أشعة الشمس الملتهبة فتلهبها تحت الأقدام وقد يئس القوم من كل روح وقنطوا من كل وجهة فاجتمعوا يتشاورون. قال قائل منهم يا قوم إنما هو الموت فانتم بين اثنتين: أما أن تموتوا ضيعة وتصبح أجسامكم نهباً لسباع الأرض والجو لا تواريكم يد في التراب ولا تؤوي نفوسكم إلى جدث تطمئن فيه وأما أن يقوم بعضكم على بعض ويواري بعضكم بعضا فيكوم لكل منكم حفرته وتعرف نفوسكم إذا هامت في الفضاء الواسع وألمت بأهلها في بطاح مكة وظواهرها كيف تهتدي إلى أجسادها فتلم بها وتسكن إليها. والرأي أن يحتفر كل منكم حفرته، وان تقيموا فأيكم ذهب الصدى بنفسه ورآه أصحابه وبكوا عليه. فلا يذهب منكم ضيعة إلا رجل واحد تمتد