وانطلق مع صديق لي إلى ناحية المروج في نزهة خلوية فتقابلنا على الأرض نملة تسعى، فيدوسها الصديق بقدمه عامداً إلى قتلها؛ ولكنه يتركها تتلوى فلا هي بالحية ولا هي بالميتة، فيشجر بيني وبينه شقاق في الرأي حول فعلته. . . أريد أن اثبت له أنه مخطئ وأن الله لم يجعله على الأرض مبيداً للحشرات، ويريد هو أن يثبت لي أنه مصيب وان الله لم يجعلني على الأرض مرشداً للناس. ويطول الخلاف بيني وبينه، فلا هو مقتنع بأن عمله هذا قسوة ولا هو مقنعي بأن عمله هذا رقة؛ فأضطر إلى السكوت على مضض وأمشي مشفقاً على النملة المتوجعة، متألماً لطغيان القوة على الضعف، متعجباً لاعوجاج معنى الحياة، حاملاً من إشفاقي وتألمي وتعجبي ثورة على صديقي. . . لقد ديست النملة وتحطمت وبقيت تتعذب حتى تموت فماذا جرى منها حتى نستحل ما جرى عليها؟. . وأين الرحمة؟ أين الرحمة؟
وأظل أتغيظ ويملأ الغيظ نفسي، وقد يذهب هذا من سروري ما أنا في حاجة إليه في نفسي.
ويصادفني في الطريق رجل كسير مسكين يترقرق الدمع في عينيه ويكاد يطفر، وتجول الحسرة الصامتة في جبينه وتكاد تتكلم؛ فتلتقي عيناي بعينيه في موقع الفاقة من هيكله، ثم يلتقي شعوري بشعوره في موضع الألم في نفسه. . . وأراه يتلفت عن يمينه وعن شماله متفرساً في وجوه المارين به مر الزوارق اللاهية بالصخرة الحزينة، فأذهب أتصور نفسي بائساً بؤسه حائراً حيرته واقفاً، وأمكث أتحرى في مسارح شعوري ما كنت أقوله لنفسي وما كانت نفسي تقوله لي. . . حتى أسمع في وجداني هذا الحديث: كنت أقول لنفسي: أنا جائع فهل من هؤلاء الناس السعداء من يعرف الجوع؟ وهل منهم من يرده؟. . . وتقول لي نفسي: أمسك على الطوى فليس بين الناس من يرجى، وليس غير الله من يسأل. . . فأقول لها وهل المحسن من الناس إلا يد من الله تمد بالحسنة؟. . . فتقول لي: يد الله لا تنتظر السؤال لتعطي. . .
ويتمطط حديث الوجدان ويطول، وأظل أتحسر ولا أستطيع إلا أن أتحسر؛ وقد يستغرق هذا من وجداني ومن خاطري ما أنا في حاجة إليه لعملي.