وأجلس في غرفتي مسهداً في هدأة الليل تشرف بي جلستي على دور ومن ورائها حقول ومن ورائها ما لا يرى. . . فتذهب عيني إلى مسارب الفكر، ويغوص فكري إلى أعماق الكيان. فماذا أجد هناك، وما تحمل نفسي من هناك؟!
أجد هناك إرادة الحياة تغالب إرادة الموت فتتجاذبان روح الإنسان، والإنسان بينهما عاجز لا حيلة له، ضعيف لا قوة فيه، مسخر لا رأي عنده. . . وما تزالان تصطرعان حتى تهتديان إلى حل تصطلحان عليه، هو أن يموت الإنسان جزءاً من اليوم على قدر استعداده للخمود والموت، ويحيا بقية اليوم على قدر استعداده للعمل والحياة؛ وتتفقان على أن تسمى تلك الموتة اليومية الصغيرة بالنوم، فيقال نام. . . حتى تعافه الحياة فتنزل عنه للموت فيقال مات. . .
وتحمل نفسي من هناك كلمة الفناء ومعها كلمة الألم؛ وأقول لنفسي: حقاً إن هذا الذي نسميه النوم ما هو إلا راحة أصغر من راحة، فهو موت أصغر من موت. . . يا عجباً!! أهكذا جُعل الموت على رقابنا حتى لم تخل منه الحياة نفسها؟! أهكذا خُلقنا لنموت ونحيا كل يوم ثم نموت في يوم فلا نحيا؟! ثم أقول: يا ويلتاه. . . لن ألبث إلا قليلاً حتى أكون في عداد هؤلاء الأموات الذين تركوا الدنيا وما يزالون فيها. . فمنهم من يبعث ليأرق ثم يموت، ومنهم من يبعث ليشرب ثم يموت، ومنهم من تدخله موتته الصغرى في موتته الكبرى فلا يبعث إلا يوم الحشر. . .
وأظل أتأمل وأتوزع بين التأملات؛ وقد يشغل هذا من بصيرتي ومن إدراكي ما أنا في حاجة إليه لقلبي.
وآوى إلى مضجعي قبيل الفجر مهدماً كالقادم من سفر طويل، مكدوداً كالفارغ من عمل شاق؛ وألقي برأسي على الوسادة ثقيلاً كالحجر، ساخناً كالأتون، ممتلئاً بما أفرغت فيه المشاهد والمشاعر من صور طول النهار ومعظم الليل. . . وفيما أنا أستشعر الخلو، وأتلمس الاستقرار، واستكفي مخي عناء التفكير، وأقنعه بضرورة الرقاد. . . يطرق مسمعيصوت بوم ينعب، وأنا لا أمقت كما أمقت البوم طائراً نافعاً أو ضاراً؛ فأنهض من فراشي لا لأغلق النافذة دون ذلك الصوت الكريه البعيد فأزيد بعده أو أصده؛ وإنما لأطل من النافذة فأقترب من ذلك الصوت الكريه البعيد فأسمعه جيداً لعلني أفهم غموضه فأفسره.