حاولت في بحث قصير كان موضوع إحدى المناقشات أن أوجه مقارنة بين الحساسية في الغرب وبينها في الوسط الذي أعيش فيه، وذلك عن طريق دراسة أقوى وسائل التعبير عنها - ألا وهي الموسيقى - ولكي أعزز مناقشتي لجأت إلى الأدب وتاريخه وشخصياته البارزة. وحينئذ أصبحت مدفوعاً إلى أن أقرر بأن الغرب قد تأخر إلى القرن التاسع عشر ليشهد ازدهار (المذهب الرومانتيكي) أي تلك الحركة الفكرية والفنية التي تشبه أدبنا إلى حد بعيد. ولذلك فان أوربا لم تخلق إلا حديثاً، وحديثاً جداً من يكمل ما بدأه عمر الخيام والمعري والفردوسي. فالنفثة الحزينة المؤلمة التي بعثها الفيلسوف شبنهور (١٧٨٨ - ١٨٦٠) هي التي ألهمت كل الموسيقيين الرومانتيكيين، هؤلاء الموسيقيين الذين عالجوا مسائل القدر المعقدة، وآلام الإنسانية المحكوم عليها بالعذاب. وإن أشهر زعماء المتشائمين الغربيين ليس لهم أن يعلمونا شيئاً، كما أن شوبان الذي قيل إن (توقيعاته ما هي إلا دموع متساقطة على أصابع البيانو) لم يصل مطلقاً إلى ما وصلت إليه أغانينا الحزينة حسب رأيي على الأقل.
ولا شك في أن الموسيقى ليست عالمية. فلن تستطيع أن تفهم (سيزار فرنك) كما يفهم نفسه أو كرجل مسيحي، ولا (بتهوفن) بدون دراسة عميقة للفلسفة الألمانية. وأني أحاول في حكمي أن أتناسى الآراء التي انتقلت إلي بالوراثة، وأن أتحاشى التحيز والتعصب في نقدي، وأنا لا أنكر إن هذا العمل يتطلب مني جهداً عظيماً، وتسامحاً كبيراً. ولكن دراستي المتواصلة والبعيدة عن المحاباة لشلر ومدام دستايل وشاتوبريان وبيرون وبودلير، الذين أذكرهم هنا كقادة المدرسة الرومانتيكية، لا ترسم لنا صورة جديدة أو أثر يكون أجنبياً عنا حقيقة.
بقى علينا أن تساءل في صراحة: أليس الموسيقى الغربية التي لا تسير إلا في المحيط النظري (الميتافيزيقي) أكثر تأخيراً من موسيقانا؟
إن أوروبا بمؤلفيها الموسيقيين في القرن التاسع عشر والقرن العشرين - برغم أعمال سترافنسكي - تُظهر تخبطاً لا نهاية له في محاولتها دراسة القضاء والقدر التي تتحكم في