للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فالذي يقول هذا لا يمكن أن يأخذ وسيلته إلى الناس دعوى النبوة، لأنها تقتضي منه شيئاً آخر غير هذا الاستهتار، وتواضعاً في القول غير هذا التجبر، واقتصاداً في الحديث عن النفس غير هذا الإسراف في الفخر.

وسبيل هذه القصيدة بعد هذا سبيل القصيدة السابقة في القطع بكذب هذه الدعوى على المتنبي، لأنها تظهره في ذلك العهد بخلاف المظهر الذي يظهر به فيما ينسب إليه في دعوى النبوة وادعاء مثل هذه الدعوى من المتنبي في علمه وذكائه تقتضي منه الحيطة في أمره، وتوجب عليه ألا يظهر بين الناس بهذا المظهر في شعره، حتى يصدقه الناس في دعواه، ويلتئم حاله فيها التئاماً يخدعهم فيه. ويجب علينا بعد هذا أن نأخذ في هذا اللقب بما نقله أبن جني عن المتنبي نفسه، وقد ذكرنا فيما سبق، فلا نعيده هنا، ولكنا نذكر في ذلك مذهباً للأستاذ (محمود شاكر) رأى أنه أقرب إلى الصدق، وأولى بالاعتبار، وهو أن المتنبي نبز هذا النبز من أجل أنه كان في أول أمره متورعاً في خلقه لا يخرج عن حدود الوقار، متزمتاً لا يلين إلى الشهوات ولا يلقى إليها مقاده مترفعاً عن سفساف الأخلاق متمسكاً بمعاليها، آخذاً نفسه بالجد الذي لا يفتر؛ وكان لا يقرب التهم ولا يدانيها، فما كذب ولا زنا ولا لاط، ولا أتى أمراً منكراً يؤخذ عليه، أو يُزَنُّ به. واستمر على ذلك حياته كلها، وخالف الأدباء والشعراء من أهل عصره فما شرب الخمر ولا حمل وزرها، ولولا اضطراره فيما نرى لما حضر مجلسها. وكان الأدباء والشعراء في ذلك الوقت أهل شراب ومعاقرة ولهو وهزل وباطل، فلما وجدوا ما هو فيه من التعفف والتورع، ووقعوا على كثرة دوران أسماء الأنبياء في شعره، وتشبيهه نفسه بهم، نبزوه هذا النبز، ولقبوه المتنبي يريدون المتشبه بالأنبياء.

ولا شك أن هذا غلو من الأستاذ في أمر المتنبي، وقد روى عن بعضهم أنه عاشره فما رآه كذب ولا زنا ولا لاط، ولكن هذا لا يكفي لأن يجعل منه الرجل الصالح الزاهد المتورع الذي يصفه الأستاذ محمود. على أن هذا الاشتقاق لا يدل على التشبه وإنما يدل على الادعاء، وقد جاء في القاموس (وتنبأ ادعى النبوة ومن المتنبئ أحمد بن الحسين) وإنما يقال في ذلك تأله، لأن التأله التنسك والتعبد، ولم يلصق هذا اللقب بالمتنبي إلا لأجل الكيد به، وإيهام أنه ادعى النبوة، ولهذا كان يكرهه المتنبي. ولو كان لهذه الأغراض المذكورة

<<  <  ج:
ص:  >  >>