هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ... لا يشتكي قصر منها ولا طول
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول
إخالها خلة لو أنها صدقت ... موعودها أو لو أن الوعد مقبول
لكنها خلة قد سيط من دمها ... فجع وولع وإخلاف وتبديل
ولكن فرقاً كبيراً بين سماع هذا النوع من الغزل وإنشائه، ورب شيء يقبل من شخص ولا يقبل من شخص أعلى منه، ورب حسنات في ذلك تعد سيئات، ورب سيئات تعد حسنات. ولا شك أن مثل هذا الغزل لا حرج فيه على كعب رضي الله عنه، وقد سمعه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الاعتبار، وإن لم يكن من شأنه هو أن ينشئه.
ثم اقتضب المتنبي نسيبه اقتضابا، وابتدأ مقصوده من قصيدته بقوله:
ليس التعلل بالآمال من أرَبي ... ولا القناعة بالإقلال من شيمي
فإذا هو فيه طالب دنيا لا أكثر ولا أقل، وإذا به لا يرضى في ذلك بالقليل، وينفر من صفة القناعة التي حث عليها جميع الأنبياء قبله.
وهو في ذلك أيضاً ثائر على دهره الذي يفقر مثله على مروءته وشجاعته، ويغنى سواه على فقره من المروءة والشجاعة؛ ثائر على تلك الدول التي أقامها في عصره خدم العباسين الذين كانوا يجلبونهم أرقاء فيصبحون ملوكاً على الناس، فهو يقيم الدنيا ويقعدها من أجل تلك المهازل في نظره، ويرى نفسه أعلى شأناً من هؤلاء الخدم، وأحق منهم بهذا الملك الذي استأثروا به لأنفسهم.
وهو هنا لا يتحدث عن عدل وجور كما يتحدث فيما ينسب في دعوى نبوته، بل يتعطش إلى الحرب والقتال كما يتعطش كل فارس جبار يعشق سفك الدماء ونشر الفساد في الأرض.
ولا يتحدث كذلك عن أيمان وكفر، بل يتحدث عن خدم أقاموا لهم ملكاً هو أحق به منهم لما امتاز به من المروءة والشجاعة عليهم.
ثم تراه لا يقلع في هذه القصيدة عن استهتاره، وأخذه فيما بدل على ضعف دينه، فيقول
بكل مُنصلتٍ ما زالُ مُنتظري ... حتى أدلت له من دولة الخدم
شيخ يرى الصلوت الخمس نافلة ... ويستحل دم الحجاج في الحرم