للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

رِدِي حياضَ الرَّدى يا نفس واتركي ... حياض خوف الردى للشاء والنَّعم

إن لم أذَرْكِ على الأرماح سائلةً ... فلا دعيت أبن أُمِّ المجد والكرم

أيملك الملكَ والأسياف ظامئةٌ ... والطير جائعة لحم على وضم

من لو رآني ماءً مات من ظمأٍ ... ولو مثُلْتُ له في النوم لم ينم

ميعادُ كلِّ رقيق الشفرتين غداً ... ومن عصا من ملوك العرب والعجم

فإن أجابوا فما قصدي بها لهم ... وإن تولَّوْا فما أرضى لها بهم

وقد افتتح المتنبي هذه القصيدة بذم الشيب الذي ظهر فيه قبل أوانه، فحل في رأسه ضيفاً ثقيلاً غير محتشم، وبدا بياضه في عينه أسود من الظلم، وقد اجتمع عليه بذلك أمران صارا له كالغذاء: حب مبكر في عهد الطفولة، وشيب مبكر في بلوغه الحلم. ولا شك أن من يتبرم بالشيب هذا التبرم لا تحدثه نفسه بادعاء النبوة وما يلزم لها من إظهار الصلاح والتقوى، والفرح بالشيب إذا أقبل، لأنه كما قال بعض الحكماء: زهرة الحنكة، وثمرة الهدى، ومقدمة العفة، ولباس التقوى. وأين قول المتنبي في هذا من قول دعبل بن علي

أهلاً وسهلاً بالمشيب فأنه ... سمة العفيف وحلية المتحرّج

ضيف ألمَّ بمفرقي فقربته ... رفض الغواية واقتصاد المنهج

فمثل هذا هو الذي كان يقوله المتنبي في الشيب لو صح ما ينسب إليه في دعوى النبوة، وهو الذي يتفق مع الغاية التي تنسب إليه فيها.

ثم مضى المتنبي يتغزل على أسلوبه في قصيدته الأولى، يسأل كل رسم، ويجري في حب متنقل وراء كل ذات خمار، وهو حب شهوي كحب أبن أبي ربيعة وغيره من الشعراء الذين تستهويهم كل ذات جمال، ولا يعرفون في حبهم شيئاً من الوفاء، بل يتحدثون عن وفاء النساء لهن ولا يفون، كما تحدث المتنبي عن ذلك في قوله:

تنفست عن وفاء غير منصدع ... يوم الرحيل وشعب غير ملتئم

وقد يتفق لنبي أن يسمع هذا النوع من الغزل إذا كان بريئاً كما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم في سماعه قصيدة كعب بن زهير

بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يُفْد مكْبول

وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول

<<  <  ج:
ص:  >  >>