فعزم على بيع أملاكه والرحيل بعائلته، لكنه خشي أن يبعث الاضطراب إلى قلوب السكان، فدبر حيلة ناجعة، ذلك أنه دعا أشراف المدينة ورؤوسها إلى وليمة فاخرة مدها لهم، واتفق مع ابنه أن يثيرا الخلاف بينهما (أو بينه وبين اليتيم الذي درج في بيته كما يقول آخرون) وتبودلت بينهما الضربات فصاح عمرو: (وا فضيحتاه!! أفي يوم مجدي وفخري يسبني ويلطمني غلام عاق؟) ثم أقسم أن يقتل الفتى، فتوسل إليه ضيوفه أن يرحمه ويرأف به فأجابهم، بيد أنه أقسم قائلاً:(لا أقيم ببلد لطم وجهي فيه أصغر ولدي وسأبيع أرضي ومتاعي) وإذ نجح في الخلاص من أعبائه - إذ لم يعدم مشترين لبوا دعوته واغتنموا غضبته - لم يتردد في أن يخبر الناس بما يتهددهم من بلاء ثم بارح مأرب على رأس جمع حشيد، ثم أخذت المياه تثقب السد شيئاً فشيئاً وتغمر الأرض، مرسلة في لجتها الدمار طولاً وعرضاً، ومن هنا نشأ المثل القائل (تفرقوا أيدي سبأ) أي تشتتوا كما تشتت قوم سبأ.
وإن ذلك الطوفان ليؤرخ فترة من تأريخ بلاد العرب الجنوبية ثم غابت المياه واخضرت الأرض بعد إمحال وعادت إلى الإيناع والزرع، بيد أن مأرب ظلت مهجورة، واختفى السبئيون إلى الأبد إلا ما يذكره الأعشى في قصيدة له من قوله:
وفي ذَاكَ للمُؤتسى أُسْوةٌ ... ومَأرَبُ عَضَّ عليها العرِمُ
رَخامٌ بَنتْهُ لهم حِمْيرٌ ... إذا جاء مَوَّارُه لم يَرِم
فأرْوَى الزَّروع وأعنابَها ... على سِعَة مَاؤهَا إذْ قَسَم
فَصَارُوا أيادِيَ ما يَقْدِرون ... مِنهُ على شُرْبِ طفل فُطِم
وليست في كلام الشاعر عن حمير دقة تاريخية، أما الحميريون وعاصمتهم ظفار (صنعاء فيما بعد) فقد صاروا حكام اليمن بعد انفجار سد مأرب وتلاشى السبئيين الذين أقاموه.
أما تبع الأول - الذي أطلق لقبه مؤرخو المسلمين على من خلفه من ملوك حمير فيسمى (حارث الرائش) لأنه زين بيوت قومه بالغنائم والأسلاب مما جلبه معه - كفاتح - من الهند وأزربيجان، أما عن التبابعة الذين ولوا الحكم بعده فان بعضهم يدين بدرجة في سلسلة حمير إلى النسّابين الذين كان احترامهم للقرآن يفوق دقتهم النقدية كما حدث مثل هذا بشأن المخلوق الخرافي صعب ذي القرنين، وأن الأبيات التالية لتخلط بينه وبين ذي القرنين العجيب الوارد نبؤه في القرآن والذي يعتبره معظم المفسرين نفس الاسكندر الأكبر.