للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الأديب أديباً حتى يكون له رأي في الأدب والحياة تنضح عنه في كتاباته النقدية، كما يصدر عنه في آثاره الأدبية، وكلُّ من دريدن وبوب ووردزورث قد استجد مدرسة في الأدب لا بأشعاره فقط، بل بنظرياته في النقد. فبينما كان غرض النقد في العربية المحافظة على مناهج المتقدمين، وكان في الإنجليزية ابتداء حركات جديدة.

ولا ريب أن الأدباء الذين يمارسون النظم والنثر هم أدرى الناس بنقدهما، لأنه لا يعرف الشوق إلا من يكابده؛ والأديب الذي يعلن للناس نظرياته النقدية مشفوعة بآثاره الأدبية أمثلةً مؤُيِّدةً لتلك النظريات، كما فعل وردزورث في أغانيه الشعبية ومقدمته النثرية لها، أحرى أن يُتَّبَعَ من الناقد الذي لا يمارس الأدب، وإنما يملي على الأدباء آراءه وهو بنجوة عن محيطهم، فمن أعجب ظواهر الأدب العربي تنحي فحوله عن مضمار النقد، وتركهم مجاله لعباد القديم ومقدسي السلف.

ولتقديس النقاد للقديم وقفوا موقفاً متناقضاً: فكانوا ينكرون على الأديب أن يحيد عن مناهج القدماء، ثم ينكرون عليه أن يتداول معانيهم التي سبقوه إليها، وصرفوا جانباً عظيما من اهتمامهم إلى تتبع سرقات الشعراء، فكتاب الوساطة للجرجاني أغلبه جهد ضائع في تقصي المعاني إلى مواطنها الأولى في أشعار الأجيال السالفة، وتمزيق القصائد بيتاً بيتاً؛ والحكم على الشعراء بالاختلاس لأوهى الشبهات اللفظية.

وكان نقاد العربية أكثر التفاتاً إلى الألفاظ منهم إلى المعاني، وعد أكثرهم إحكام اللفظ ميزة الأديب الفحل، وعدوا المعاني مشاعاً بين الجميع، قال أبو هلال العسكري: (وليس الشأن في إيراد المعاني، لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي والقروي والبدوي، وإنما هو في جودة اللفظ وصفائه)، وقال أبن الأثير (ولقد رأيت كثيراً من الجهال الذين هم من السوقة أرباب الحرف والصنائع، وما منهم إلا من يقع له المعنى الشريف، ويظهر من خاطره المعنى الدقيق، ولكنه لا يحسن أن يزوِّج بين لفظتين؛ فالعبارة عن المعاني هي التي تخلب بها العقول، وعلى هذا فالناس كلهم مشتركون في استخراج المعاني).

ولهذا صرف أكثر النقاد همهم إلى خصائص الألفاظ وضروب الأساليب، وأسهبوا القول فيما سموه علم البديع، واستقصوا أقسام الجناس والطباق والسجع، وطُرُق تضمين الآيات وحَلِّ الأشعار؛ ووجود علم البديع في العربية دون الإنجليزية برهان ناطق على شديد

<<  <  ج:
ص:  >  >>