للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

اهتمام نقاد العرب باللفظ؛ وكان للناقد والأدباء معاً إيمان وطيد بمقدرة اللغة على أداء أي معنى، وثقة لا تتزعزع في تفوق اللغة العربية في الفصاحة على غيرها من اللغات، وكانوا يرون ذلك ميزة العرب على غيرهم من الأمم التي بذتهم في شتى العلوم.

أما موقف جمهور الأدباء الإنجليز من اللغة فكان غير هذا: فهم وإن لم يغفلوا أهمية الصياغة اللفظية وضرورة تمكن الأديب من اللغة ووقوفه على أسرارها، ظلوا يعدون اللغة وسيلة لا غاية، وسيلة للتعبير عن خوالج النفس، بل عدَّها كثير منهم وسيلة ناقصة عاجزة عن التأدية إلى تلك الغاية، يجب على الأديب أن يستفرغ جهده ليجعلها تؤدي غرضه؛ فلم يهتم أدباء الإنجليزية ونقادها برنين الألفاظ الأجوف وزخرفها المموه، بل استعانوا بمعانيها المصطلح عليها، وجرس حروفها ودقة اختيارها والملاءمة بينها، واشتقاقها وخلقها حيث لا توجد لتأدية الحالة النفسية المتخيلة على ما يجب، وتصوير الجو العاطفي أو المنظر المرئي: من رهبة أو جذل أو سكون أو سرعة، ويفاضل النقاد الإنجليز بين الأدباء حسب مقدرتهم على استخدام اللغة هذا الاستخدام وتطويعها لأغراضهم على هذا النحو، لا حسب حظوظهم من المحسنات البديعة، ويقولون إن الفرق بين لغة العلم ولغة الأدب أن الأولى تعتمد على المعنى المجرد للفظ، والثانية على ما توحيه الألفاظ من أجواء معنوية.

ولما كان إيمان العرب بتفوقهم البياني كما تقدم، لم يهتموا بالآداب الأجنبية أو النقد الأجنبي كثيراً، فهم واضعو علوم البلاغة في لغتهم، وهم نهجوا بكتب الأدب والنقد نهجهم الخاص بهم، وجدهم في هذا السبيل جسيم جليل؛ أما الإنجليز فجعلوا النقد الأدبي الأجنبي دائماً نصب أعينهم، قديماً كان أو حديثاً، فما كتبته أرسطو ومما نظمه هوراس في النقد نشأ النقد الدبي في الإنجليزية، وغُذِّى بعد ذلك بكتابات دانتي وبوالو ولسنج وجيته وسنت بيف وتين؛ فالناقد الإنجليزي يستعرض آراء هؤلاء أثناء استعراض آراء مواطنيه بلا تفريق ولا ريب أن اشتمال النقد الإنجليزي على آراء أمثال أولئك ربح للأدب لا يقدر: فاطلاع الأدباء والنقاد على خير ما تنتجه القرائح في العالم أجمع يوسع آفاق تفكيرهم ويفسح حدود أدبهم، ويربأ بالأدب أن تثقله القيود وتفسده التقاليد، ومن ثم قال ماثيو أرنولد بضرورة إتقان الناقد في أدب ما أدباً أجنبياً واحداً على الأقل، تزداد فائدته له كلما ازداد التباين بينه وبين أدب الناقد الأصلي.

<<  <  ج:
ص:  >  >>