على أن هذا الغرض - فوق تفسيره لموقف الجاحظ - يفسر لنا طائفة من الأحاديث الموضوعة، لم نفهم من قبل السر في وضعها، والعناية بصنعها، فنحن نعرف كيف كانت الطوائف المختلفة تجتهد في وضع الأحاديث ونسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتأييد مذاهبها، ونشر الدعاية لمبادئها، ومثل هذه الأحاديث نستطيع في غير عنت أن ندرك السر في وضعها. أما تلك المجموعة من الأحاديث التي نحن بصددها فيبدو في بادئ الرأي أن وضعها كان عبثاً ولهواً وسخرية، وإلا فما ظنك بهذه الأحاديث التي وضعت عن الديك، ووضعته في صف الملائكة المقربين. كذلك الحديث الذي ذكره صاحب التهذيب، في ترجمة البزي - وقد قال عنه إنه ضعيف الحديث - وهو:(الديك الأبيض حبيبي وحبيب حبيبي جبريل، يحرس بيته وستة عشر بيتاً من جيرانه) أو ذلك الحديث الآخر: (ثلاثة أصوات يحبها الله تعالى: صوت الديك، وصوت قارئ القرآن وصوت المستغفرين بالأسحار). أو ذلك الحديث الثالث الذي يعتبر بدعه فنية خليقة بالخيال الفارسي المترف، وقد رواه الطبراني في معجمه:(إن لله سبحانه وتعالى ديكاً أبيض، جناحاه مُوشّيان بالزبرجد والياقوت واللؤلؤ: جناح بالشرق وجناح بالمغرب، ورأسه تحت العرش وقوائمه في الهواء، يؤذن في كل سحر، فيسمع تلك الصيحة أهل السموات وأهل الأرض إلا الثقلين الإنس والجن، فعند ذلك تجيبه ديوك الأرض، فإذا دنا يوم القيامة يقول الله تعالى ضم جناحيك وغض صوتك، فيعلم أهل السموات وأهل الأرض إلا الثقلين أن الساعة قد اقتربت) ومثل ذلك كثير مذكور في الكتب.
أفي الحق أن كل ذلك كان عبث عابث ولهو لاه ساخر؟ أكل ذلك العناء في وضع تلك الأحاديث، والتكلف لها وتلفيق أسانيدها، وذلك الجهد الذي لا نشك في أنه كان عظيماً من أجل امرارها وإدماجها بين الأحاديث الصحيحة، أكل أولئك كان لهواً ولعباً لا غاية ولا هدف يتجه نحوه؟؟
كلا! وإنما هي الشعوبية التي أسرفت في وضع الأحاديث عن فارس وسلمان الفارسي وغير ذلك، هي هي التي أوحت بتلك الأحاديث الغريبة في تمجيد الديك وتقديسه، باعتباره رمزاً فارسياً.