للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أثقب ثقوباً من جيفة بعير، فظنت أن الذي وهّمهما ذلك عصبيتهما عليه، وبغضهما لأربابه).

أما الديك فكان عند العرب من أظهر ألوان الحياة الفارسية، فهم دائماً يضيفونه إلى العجم. ومن ذلك قول الشاعر:

لعمري لأصوات المكاكي بالضحى ... وسوء تداعي بالعشي نواعبه

أحب ألينا من فراخ دجاجة ... ومن ديك أنباط تنوس غباغبه

وعن قتادة أن أبا موسى الأشعري قال:

(لا تتخذوا الدجاج في الدور فتكونوا أهل قرية) ويفسر الجاحظ هذا بأن الديك من خصائص الحياة المدنية، وكان ولاة العرب حريصين على أن يظلوا عرباً، وأن يحتفظوا بمواهبهم الحربية التي لا تلبث أن تضعف فيهم، ثم تتلاشى منهم، إذا هم ركنوا إلى حياة القرى، فاتخذوا الديكة التي هي منأبرز مظاهرها.

وهكذا نرى أن الصلة وثيقة بين العجم والديك بقدر ما هي وثيقة بين العرب والكلب، وأن كلا منهما يعتبر من خصائص الحياة الاجتماعية لذويه، وأن العرب كانوا يكرهون الديك وينفرون منه بقدر ما كان الفرس يمقتون الكلب ويسخرون من أصحابه.

وهناك دليل آخر على ما أسلفنا من أن الديك كان شديد الصلة بالأعاجم فيما يرى العرب، حتى كان يرمز في العقل العربي إليهم، وهو - فيما نحسب - دليل قوي، لأنه يجئ من عالم الأحلام، ومجالها العقل الباطن فيما يذهب إليه المحدثون من الباحثين. ذلك هو ما حكاه الدميري في كتابه (حياة الحيوان الكبرى) قال: (روى مسلم وغيره أن عمر رضي الله عنه خطب الناس يوماً فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إني رأيت رؤيا لا أراها إلا لحضور أجلي، وهي أن ديكاً نقرني ثلاث نقرات، فحدثتها أسماء بنت عميس، رضي الله عنها، فحدثتني بأن يقتلني رجل من الأعاجم) وهناك رواية أخرى للحاكم ليست فيها أسماء بنت عميس: (قال على المنبر رأيت في المنام كأن ديكاً نقرني ثلاث نقرات فقلت أعجمي يقتلني) ثم إنه مهما تكن قيمة هذه الرواية فان تأويل الديك بالأعجمي يدل وحده دلالة صريحة على ما ذكرنا. ويضاف إلى هذا ما حكاه ابن سيرين من أنهم كانوا يؤولون الكلب الأسود بالعربي. وإذن فقد تم الأمر من وجهيه، وتضافرتالدلائل على أن ذلك الغرض الذي

<<  <  ج:
ص:  >  >>