فيأيها المغترون، لا تلوموا هؤلاء المساكين إن خلت قبورهم من نُصُب المجد، وتماثيل العظمة، على حين تتصاعد ألحان الثناء وأغاني المديح، من بين جدران المدافن الفخمة، وتحت أقبيتها المزخرفة.
لأن البخور المحروق، والتمثال المنحوت، لا يرد الروح على الميت الراقد، وهتاف الناس، وعجيج الجماهير، لا ينفخ الحياة في التراب الجامد، وهمس التملق، وهجس التزلف، لا يبلغ سمع الموت البارد!
ومن يدري؟ فلعلّ في بطن هذه البقعة المهجورة قلباً كان يمكن أن يفيض منه النور السماوي، ويداً كانت تدير دفّة المركب السياسي، وأصابع كان يمكن أن تمشي على أوتار القيثارة الخالدة فتنشئ النغم السحري. . . ٍلولا أن العلم لم يفتح أمامها صفحاته الحافلة بثمرات الزمان!
أخمد النسيان جذوة أرواحهم النبيلة، وأجمد نهر حياتهم الجارية، وطغا عليهم لج الزمان. . . ولكن، كم في جوف البحر من جواهر مخبوءة، ولآلئ مجهولة، وكم في عرض البادية، من وردة تفتحت واحمرت، فلم يرها أحد، فضاع أريجها المطر في رياح الصحراء.
ومن يدري؟ فلعل هنا بطلاً (كهامبتن) كان حاكماً في حقوله مطلقاً، وكان جباراً شجاعاً، ولعل هنا (ملتون) آخر، ولكنه صامت مغمور، ولعل هنا (كرموِل)، ولكنه كرموِل برئ من دم أبناء الوطن!
منعهم القدر من الاستمتاع بهتاف الجماهير، وتصفيق البرلمانات، ومنعهم من المغامرة، وركوب الأهوال، وازدراء المصاعب، واحتقار العقبات، ومنعهم من نثر الخيرات على بلادهم، وقراءة تأريخهم في عيون الشعب.
ولكن القدر لم يمنعهم مزاياهم وحدها وفضائلهم، بل منعهم رذائلهم أيضاً وجرائمهم. . . فلم يرتقوا العروش على الجماجم، ولم يسدوا أبواب الرحمة على البشر، ولم يخفوا حمرة العار والخجل، ولم يخفتوا صوت الضمير، ولم يعطروا معابد ترفهم واستكبارهم بالبخور الذي تحرقه (ربّة الشعر).
لقد اتبعوا طريقهم السوي في وادي الحياة المنعزل البارد، وساروا فيه صامتين، لم تتعلم أمانيهم القريبة، وشهواتهم البريئة الخروج بهم عن صفوف الشعب المناضل على الحياة،