للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

المزاحم على البقاء.

ولكنهم - مع ذلك - لم تخل قبورهم، من أثر للذكرى ضئيل: شعور مكسور، ونقش محطوم، يستجدي المارة آهة العطف، وهمسة التقدير، ويحفظ عظامهم من أن تهان.

إن هذا الشعر - شعر الأميّة الساذجة - الذي ينطق بأسمائهم وأعمارهم، يقوم مقام التعظيم والتبجيل والرثاء، وينشر بين القبور نصوصاً مقدسة، تعلم المربين والمعلمين كيف يصمتون ويتعلمون.

وأي امرئ بلغ من خمول الذكر والهوان على الناس يترك الدفء والنور والسعادة من غير أن يلتفت إلى الوراء فيودع العالم بنظره. . . إن الروح الراحلة تريد أن تتكئ قبل رحيلها على صدر محب، والعين المغمضة تحتاج قبل إغماضها إلى دموع الإخلاص. . . بل إن صراخ الحياة لينبعث من صميم القبر فيضرم نارها في رمادنا البارد.

وبعد، فيأيها الشاعر الذي يقوم في المقابر، ويندب الموتى المنسيين، إني لألتفت الآن إليك، فأرى رجلاً مثلك، شاعراً هائماً، قد جاء يبحث عما حلّ بك، وانتهى إليه مطافك، فوجد فلاحاً هرماً فسأله عنك، فقال له:

لقد طالما رأيناه عند انبلاج الفجر، يسرع الخطو ليستقبل الشمس من ذروة الهضبة.

وطالما لمحناه في الظهيرة متمدداً بجسمه المنهوك على أقدام تلك الشجرة الهرمة، وفوق جذورها البادية العجيبة يرقب الجدول الذي ينساب إلى جانبه، ويتأمل أمواهه الهادرة المتكسرة، وطالما أبصرناه هائماً على وجهه بالقرب من هذه الغاية باسماً آناً كأنه ساخر من كل شيء، وآناً عابساً كئيباً كأنه مضني هدته الآلام، وأم مريض قتله الحب اليائس.

وفي ذات صباح، نظرنا إلى الهضبة فلم نجده، فبحثنا عنه في الذروة، وعند الشجرة، والى جانب الجدول، وبالقرب من الغابة فلم نقع له على أثر.

ثم رأينا شاعراً آخر يحتل مكانه.

ثم رأينا بعد نعشه محمولاً إلى المقبرة، ترتل من حوله أناشيد الموت.

وهاهو ذا قبره، قائم تحت تلك الشجرة التي كان يجلس إليها، فتعال اقترب. . . اقرأ ما عليه:

(هنا. . . في حضن الأرض، يرقد شاب تجهله الثروة ولا يدري به المجد، ولا يعرفه إلا

<<  <  ج:
ص:  >  >>