فقال المساعد في حماسة غير منتظرة وهو ثرثار ضامر ناحل الجسم معروق:
(كان الفحم قوالب ضخمة. . . كارديف. . . وكان القالب الواحد يسير قاطرة بأسرها. . كنا ننزل القالب في حوض الورشة ونضربه ضربتين على يافوخه، ومثلها على جنبه، فيتهشم ويتناثر، فننضحه بالماء، وندفع منه المجرافين أو الثلاثة في النار وننام على حسه!! أما الآن فهذا الفحم كعيدان الذرة لا خير فيه. .)
فتحول إليه السائق بجانب وجهه، وبصره لا يزال عالقاً بالقضيب، وقال باسماً في خبث:
(تعبت. . .؟)
(تعبت!! لا يزال نور (المنيا) بادياً. . رحم الله أيام الشباب، كنا نعمل في الورشة أكثر من عشر ساعات وقوفاً على الأقدام ولا نفكر حتى في الطعام. كان أحسن الله إليه. . .)
وحبس سيل الكلام بعد أن بصر بالسائق يتراجع إلى الوراء ويرقب البخار. . وسأله:
(٥٩؟. .)
(٨. . . .)
ثم نسى ما كان فيه من حديث وأمسك (بالاسطبة) وأخذ يلمع جوانب الفرن وعجز الآلة الضخمة ويزيل الزيت اللاصق بالحديد والنحاس، والأنابيب الصفراء الملتوية والمعدنية الدقيقة؛ ولما وصل إلى محبس البخار بدا له أن ينفس عنه قليلاً، ففعل، وهب البخار القوي من بوق القاطرة وهو يئز وينش وطار مع التيار، ولما قفل المساعد المحبس ثانية رضت أصابعه بعض المفاتيح الصغيرة، فعبس وكشر، وصمت محنقاً، وكان صمته منتهى ما يرجوه السائق!
وكان السائق واقفاً عند نافذة القطار الزجاجية الصغيرة يرقب الطريق، وهو يدخن؛ وكان يتحول عن موقفه من حين إلى حين ليلمح الساعة وضاغط الهواء ودرجة البخار ومقياس الطريق، ثم يعود إلى مكانه عند النافذة، ويده في سرواله الأزرق، وسترته تنحسر عن صدره العريض القوي البارز، وعلى كتفيه وفي طرف كمه الزيت الملوث بالفحم المنضوح. وكان في وقفته ساكن الملامح، هادئ النفس، ثابت الجوارح، راسخ القدم، فعل الواثق من نفسه وعمله؛ وكان لصلابة عضلاته ووثاقة تركيبه وقوة أعصابه أثر واضح في