للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ذلك.

أما المساعد فقد ما بظهره على ركن القاطرة تحت مخزن الفحم بعد أن أشعل سيجارة من جمرة جذبها من الفرن وانطلق يدفع الدخان ويفكر، ونظره لا يتحول عن السائق الواقف أمامه في حلته الزرقاء. ولما مد السائق رجلا وثنى الأخرى وعينه مستقرة على الطريق، انتصب المساعد وحدجه بطرفه، وتحول إلى ظله الجاري على الأرض، وأنعم فيه النظر في سكون حتى بصر به ينسحب بعد لحظات فرفع وجهه، وكان السائق قد انحنى عليه وفي فمه سيجارة جديدة فأخرج المساعد سيجارته من فمه وناولها إياه، وقد تلاقت عينا الرجلين واختلطت أنفاسهما، ونظر المساعد في حدة إلى عيني صاحبه العميقتين السوداوين ذواتي البريق العجيب، والى ملامح وجهه المعبرة القوية الساكنة وجبهته العريضة البارزة ووجهه الأبيض المستطيل. . وأحس بتضعضعه وخوره أمام قوة صاحبه وغلبته؛ شعر أمام السائق بالعجز والضعف والونى فتحسر وتقبض، ولما أرتد السائق إلى مكانه من النافذة أخذ المساعد يتفرس فيه، ويقارن بين جسمه القوي المصبوب، وبين نفسه، وهو الناحل الضامر المعروق. وفتق هذا التأمل المستكن ذهنه حتى أخذ يستعرض في مخيلته عمل كل منهما، وشغله هذا التفكير حتى نسى أن ينفض عن السيجارة رمادها أو يمحو عن فمه ما ارتسم عليه من أسى مشوب بالحقد والحسد. . . وأنطلق يحدث نفسه:

(ما الذي يفعله هذا السائق. . يحرك القطار في المحطة ثم يتركه بعد ذلك للأقدار. . ويمضي معظم الليل واضعاً يده في جيوبه يدخن، ويتلهى بالنظر إلى الطريق، وكل ما يعمله هو عقرب الساعة ومقياس البخار والضغط والطريق. . وبعض الأحيان بتواضع ويمسح ما على الساعة من غشاوة!! ثم بعد هذا كله يلقي الأوامر: غذِّ النار. . ندِّ الفحم. . زّيت الآلات. . أما أنا فأظل الليل طوله واقفاً على باب جهنم، أضرمها وأغذيها وأصلى بنارها وأمسح ما على الحديد من غبار وفحم وزيت، حتى يلمع ويصقل، وجسمي عليه ضعف قاذوراته.

وإذا وقف القطار في المحطة نزلت تحت العجلات وانبطحت على الأرض لأزيّت العدد الصغيرة والمفاصل والدوافع والجواذب وأمسح معدن الذراع، فحتى هذا يجب أن يكون لامعاً!. وإذا ملأنا الماء طوقت الخرطوم بذراعي ودفعته عن الخزان بجسمي فيصيبني

<<  <  ج:
ص:  >  >>