هاطله ويزيدني بلاء على بلائي. . . هذا هو عملي وعمله، ومع هذا فأجره ضعف أجري ويزيد، وأوقات فراغي وراحتي ليست كأوقات فراغه وراحته. . . وامرأته عاقر وامرأتي تجيء في كل عام بمولود سعيد!! وأولادي من فرط الطوى ضامرون مهزولون يترقبون الصيب من السماء ليربوا ويكتنزوا ويملئوا البطون بالطعام والسماء لا تجيب! وهو فارع قوي مفتول يفور جسمه بحرارة الشباب، وأنا قميء ناحل معروق تقوست قناتي، وشابت شياتي، وأضحت جلدتي تتخدد. والحياة تقبل عليه بوجهها وتدبر عني. . . ومن يدري؟ ربما كان لقوته وسطوته سبب في ذلك، فما تحط الحياة إلا على أمثالنا من الضعفاء المرضى المناكيد، وما كنا مناكيد إلا لأننا مرضى، ولو كنا أقوياء مثله لخافت بأسنا، واتقت شرنا، وأحنت لنا الرأس فسرنا في مسالكها شامخين. . .)
(فحم. . . . . .)
فاستفاق المساعد من خواطره على صوت السائق الرنان؛ وفتح باب الفرن وأقبل على النار يغذيها بالوقود وهو صامت صابر.
عندما جاز القطار محطة (ملوي) كان الليل قد انتصف واعتدل الجو، وهب النسيم العليل من جنبات الوادي الخصيب، فأثر هذا الجو الرخي المنعش على خواطر المساعد، فخف حسده على صاحبه وزالت نقمته عليه، ووقف ينصت لدوي القطار وهو ينهب الأرض ويطوي القرى والدساكر، وقد خيم عليها النخيل وطواها الظلام في جوفه، حتى بدت صامتة موحشة رهيبة، ثم بارح مكانه وأخذ يجرف بعض الفحم من المخزن ويهيئه على عتبته للنار، وبعد أن فرغ من ذلك أشعل سيجارة ونظر إلى السائق وود لو يحادثه، يثرثر معه في أي موضوع، ويتكلم عن أي شيء، دون أن يكون لكلامه وقع أو غرض أو غاية، فما كان يعنيه هذا، وإنما حسبه أن يتكلم لأن الصمت يمله ويضجره ويأخذ بمخنقه ويثير أعصابه. . . . وفتح فمه ثم أطبقه، وكان يعرف أن السائق قليل الكلام طويل الصمت. وتنحنح وسعل وأطل من النافذة فطن في أذنيه التيار الشديد، وسفي في وجهه الغبار وجرى على وجهه دخان الفحم، وسمع صفير قطار من بعيد فبقى في مكانه ليحيي السائق إن أمكن.! ومر قطار البضاعة يجلجل على القضبان، فقال المساعد: وكأنما انبعث صوته من أعماق هاوية سحيقة