خطوتين إلى الوراء ويتقدم تجاهه وهو يضرب بقدميه الزلط الملقى بجانب الشريط، وكان لصوت قدميه دوي مسموع في الليل الساكن، وتوقف المساعد عن مسح عمود الذراع وقبض براحته على (الاسطبة) الملوثة بالزيت القذر، وقال وهو يميل بوجهه إلى حيث صاحبه:
(لا شيء. . .؟)
(لا شيء في العجلات الأمامية، وإنما أثر الدم واضح في التروس الخلفية التي أخذ عندها الرجل، على أن العدد سليمة ولا أثر للحم ولا عظام. . .)
فصمت المساعد وكأنه يفكر، ثم استأنف عمله وكان المشعل الصغير الذي في يسراه ينتفض ويخبو ويشتعل ويميل لسان اللهب يمنة ويسرة تبعاً لهبات الرياح. . وكان الزيت قد امتزج بعرقه الهاطل وسال من يده على ساعده ولوث الكثير من جسمه، فمسح الرجل الزيت في سرواله، بعد أن رمى الأسطبة على الأرض، ودارت يده حول ذقنه ورفع المشعل إلى ما فوق رأسه، واستدار ومد بصره وكان الكثير من الركاب يطلون من النوافذ ووجوههم إلى الخلف، وظلهم للواقف منهم على الأبواب واضح على الأرض، وعامل العربة الخلفية يتحدث مع (الكمساري) وحولهما بعض الناس.
واعتمد السائق على حديد النافذة وأخذ يدخن ونظره مسدد إلى الوراء حتى رأى عامل الإشارة يلوح برايته، فقال لمساعده:
(اطلع. . .)
فطلع المساعد إلى القاطرة ووضع المزيتة جانباً، وبعد السائق عن النافذة الجانبية ووقف أمام الآلة يحدق في الساعة، ثم مد يده وأدار المحرك إلى اليمين قليلاً فتحركت العجلات الأربع الأمامية الصغيرة في بطء وثقل شديد، ودارت العجلات الأربع الكبيرة التي خلفها على الفارغ، ارتفعت عن القضبان ودارت على الفارغ في سرعة وجنون، وزفر القطار وأز البخار ونش، وشال الذراع وحط، وتحركت العجلات الأمامية ولامست العجلات التي خلفها القضبان، وشال الذراع وحط وتقدم القطار وهو يئن ويتوجع وينوح. . . تقدم القطار في بطء وحزن من غير صفير!