فتلفت السائق في سرعة البرق حيث أشار مساعده فرأى شبه شبح يضطرب في غمرة الليل. . فصفر وألقى الشبكة وأدار المحرك إلى اليسار في حذر شديد. . . وكان قد فوجئ بالأمر فاضطرب جسمه قليلاً وجاشت نفسه. . . ثم حبس البخار. . . وأحس بعد مدة بضغط الفرامل وجلجلة العدد وقد أجبرت على البطء على غير انتظار، ووقف وروحه تثور ونفسه حانقة ساخطة.
كان يود أن يدخل محطة أسيوط في الساعة الواحدة والدقيقة الرابعة والعشرين. . . منذ خمس سنوات لم يتأخر في حياته مرة. . . مرة واحدة. . . كان دائماً يحاذي الرصيف وعقرب الثواني على الستين. كم كان يشعر بالفخر والزهو والشموخ والتعالي على الأخوان، كم كان يشعر بالزهو والفخر وهو العارف بأنه المسيطر على الحديد والنار. كان إذا تأخر في أثناء الطريق يغذي النار ويدفع البخار ويجهد العدد ليدخل المحطة في ميعاده. . . ولكنه الآن سيتأخر لأول مرة في حياته كسائق سيتأخر. . . سيتأخر. . . لا دقيقة ولا دقيقتين ولا ثلاثاً. . . بل أكثر من ذلك. شعر بنفسه تذوب حسرات، أحس بالآلات تئن وتتوجع وتدق كالطبول. . . كانت ضربات الضاغط والدوافع وسحبات الذراع ورجعات (البستون). . . تدوي في أذنيه كالطاحون البالية، كالمدافع المنطلقة على غير هدى في وادي التيه. أحس بدمه يفور. . . وروحه تثور حتى عقدت جبينه السحب. . ولكن يده القوية كانت لا تزال على المحرك، والقطار يحبس نفسه ويغالب قوة دفعه. . . أي مأفون هذا الرجل الذي عبر الشريط هكذا وألقى بنفسه إلى التهلكة. . .؟ وتصور الرجل وقد تمزق وطارت أشلاؤه، وطحنته العجلات، وجرى دمه مع الزيت فتفطر قلبه على الرجل المسكين. . . ووقف تتملكه أعصابه الحديدية. صامتاً. . . حتى أحس بعد مدة بالآلات تجلجل وتطيل، والبخار ينش ويئز، والذراع يغالب ويجاهد، ويطوح بنفسه في ثقل ثم يدركه الونى فيحتضر.
ونزل السائق ودار حول مقدمة القاطرة، ثم انحنى ودخل تحتها يفحص العدد الصغيرة والآلات المحركة وخرج بعد دقائق ووجهه ينضح عرقاً، وعلى معارف وجهه الساكنة آيات الهدوء المطلق، ورآه مساعده وهو يستقيم بظهره القوي عند العجلات الأمامية ثم يتراجع