للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

مستطيع أن يجد لذة نفسه في الألم، قادر على أن يأخذ هبة من معاني الحرمان. وبهذه الطبيعة يسمو من يسمو، وهي على أتمها وأقواها في عظماء النفوس حتى لكأن الأشياء تأتي هؤلاء العظماء سائلةً: ماذا يريدون منها؟

فمن أراد أن يسمو بالحب فليضعه في نفسه بين شيئين: الخلق الرفيع والحكمة الناضجة، فأن لم يستطع فلا أقل من شيئين الحلال والحرام.

أنا أنا الذي يقص للقراء هذه القصة، أعرف هذا كله، وبهذا كله فهمت قول صاحب القلب المسكين: إن ظهور صاحبته في فصل العروس هو انتقامها، حاصرت عيناها عينيه، وزحفت معانيها على معانيه، وقاتلت قتال جسم المرأة المحبوبة في معركة حبها، وبكلمة واحدة: كأنما لبست هذه الثياب لتظهر له بلا ثياب. . .

وأردت أن أعيبها بما صنعت نفسها له، وأن أعيبه هو بدخوله فيما لا يشبهه، وقلت في غير طائل ولا جدوى، فما كنت إلا كالذي يعيب الورد بقوله: يا عطر الشذى ويا أحمر الخدين.

وقد أمسك عن جوابي وكانت محاسنها تجعل كلماتي شو هاء، وكان وضوحها يجعل معاني غامضة، وكانت حلاوتها تجعل أقوالي مرة، وكانت ثياب العروس وهي تزف تريه ألفاظي في ثياب العجوز المطلقة. وكلما غاضبته مع نفسه أوقعت هي الصلح بينه وبين نفسه.

والعجيب العجيب في هذا الحب أن فتح العينين على الجميل المحبوب هو نوع من تغميضهما للنوم ورؤيا الأحلام؛ ليس إلا هذا ولا يكون أبداً إلا هذا. فمهما أعطيت من جدل فإقناعك المحب المستهام كإقناعك النائم المستثقل؛ وكيف وله ألفاظ من عقله لا من عقلك، وبينك وبينه نسيانه إياك، وقد تركك على ظاهر الدنيا وغاص هو في دنيا باطنه لا يملك فيها أخذاً ولا رداً إلا ما تعطي وما تمنع.

ثم. . . ثم غابت (العروس) بعد أن نظرت له وضحكت ضحكت بحزن حزن الذي يسخر من حقيقة لأنه يتألم من حقيقة غيرها. . . وكان منظرها الجميل المنكسر فلسفة تامة مصورة، للخير الذي اعتدى عليه الشر فأحاله؛ والإرادة التي أكرهها القدر فأخضعها؛ والعفة المسكينة التي أذلتها ضرورة الحياة؛ والفضيلة المغلوبة التي حيل بينها وبين أن تكون فضيلة ويا ما كان أجملها ناظرة بمعاني البكاء ضاحكة بغير معاني الضحك؛ تتنهد

<<  <  ج:
ص:  >  >>