والخلان؟ ومن ذا الذي يمكن أن يفطن إلى أن هذه الغابة التي زرعتها حول وجهي وسترت بها شبابي جليبة؟ وكان انخداع أخي - لا أمي ولا جدتي - هو الذي أراح بالي، ونفي عني الخوف؛ لأن فزعهما واستحياءهما منعا أن ينظرا ويحدقا؛ أما أخي فأمره مختلف جدا، وقد كان يمسك بكتفي ويهزني ويدفعني ويحدق في وجهي متعجباً لجرأتي، منكراً لتطفلي. ومع ذلك لم يعرفني!
ومضيت إلى شارع الدواوين، وكنا - إخواني وأنا - نختلف إلى (القهوة) فيه، ونقضي هناك بعض الوقت، نشرب (الخشاف) ونتبارى في لعب (الطاولة) ونصغي إلى الفونغراف وننظر إلى الرائحين والغادين، فلقيت في بعض الطريق أحد هؤلاء الأخوان، فوضعت يدي على كتفه وابتسمت له وقلت:
(هل تستطيع يا بني أن تدلني على لاظ أو غلى) فقال: (يظهر أنك لست من أهل الحي؟! هذا هو أمامك مسافة مائة متر لا أكثر).
قلت:(آه! لعن الله الشيخوخة! وقاتل الله الضعف! مائتا متر! يا سلام! أقول لك. . . ربنا المعين. نعم ربنا المعين) وهممت بأن أنصرف عنه، فقال:(هل تسمع بأن أتناول ذراعك وأساعدك على السير قليلاً؟)
فدعوت له بخير، وبشرته، وأكدت له أن الله سيجزيه أحسن الجزاء، وتركت له ذراعي، وسرنا معاً بعض الطريق، وأنا أدب بالعصا وأقول من الضعف (إه! إه) كما يفعل الشيوخ الذين انقطعت أنفاسهم، فقد كانت اللحية التي لففت فيها وجهي عظيمة جداً وبيضاء كالقطن. وبلغنا (القهوة) المألوفة فهمست في أذنه بصوت خافت: (أقول لك يا بني؟ سأستريح هنا قليلاً. . . نعم فأن العجلة من الشيطان، ولا خير في أن يحمل المرء على نفسه ويكلفها فوق وسعها).
وجلست إلى أقرب مائدة ووضعت العصا عليها واضطجعت مغمض العينين حتى انتظمت أنفاسي وسكن اضطراب صدري، وهدأت دقات قلبي، ثم التفت إلى صديقي وقلت (الله يرحم أيام الشباب!! هل تعرف يا بني؟ لقد كنت أصعد درج السلم - مائة درجة - خمس مرات أو ستاً في اليوم، جرياً بلا تمهل أو ترفق؛ وكنت أستحم في الشتاء القارص البرد من بئر في البيت، مرتين. . . مرة في الفجر ومرة في العصر؛ وكنت أستطيع أن ألتهم