وكما طلب شعراء العربية الرزق بمدح الملوك، طلبه الكتاب بالاستيزار والإنشاء في دواوينهم، فجاءت آثارهم الأدبية كآثار الشعراء، كثيرة المبالغة والإغراق، قليلة النصيب من صدق الشعور وصحة النظر، كثيرة التلاعب بالألفاظ؛ وكان لأولئك الوزراء شأن أعجب من شأن الشعراء: إذ اتخذهم الخلفاء وسيلة لابتزاز أموال الرعية، حتى إذا ما حان الحين فتكوا بهم واستصفوا أموالهم، وكتب الأدب حافلة بأنباء نكباتهم.
ولا ريب أن غيرة الملوك على سلطانهم المطلق كانت من أسباب الانصراف عن ترجمة تراث اليونان الأدبي والتاريخي، كما ترجم تراثهم الفلسفي إلى العربية، لأن هذا الأخير مشحون بالنظريات والقضايا الخيالية التي لا تتعرض لسلطانهم بسوء، على حين أن تراث اليونان الأدبي حافل بمظاهر الديمقراطية، وآثار اشتراك الشعب في حكم نفسه، فالملكية أكثر تسامحاً مع العلماء وتشجيعاً للعلوم التي تدرس ظواهر الكون العامة، منها للآداب التي تترجم عن مشاعر النفوس؛ ولا شك في أن اطلاع الإنجليز على آداب الإغريق وتاريخهم كان من عوامل تمكين نفوسهم وتشبثهم بحقوقهم. وهكذا كانت الملكية المستبدة من أسباب حرمان الأدب العربي من الأثر اليوناني الذي استفاد منه الأدب الإنجليزي فوائد جزيلة.
فالملكية في إبان صولتها ليست بخير أنظمة الحكم التي تزدهر في ظلها الآداب الرفيعة، أما في عهود عجزها فهي شر مستطير على الفكر والحضارة عامة: فحين ضعفت قبضتها على الدولة العربية تقطعت أوصال المملكة، وتكاثر الملوك والأمراء وتنازعوا وتحاربوا، فكل بلدة (فيها أمير المؤمنين ومنبر)، وظهروا في جلود الأسود منتفخين، وأفقروا البلاد بحروبهم ومغارمهم، وكان منهم الأعاجم الذين لا يقدرون الأدب، فخيب لديهم رجال الشعراء فركد حتى ذلك الضرب من الشعر المملوء بالأماديح والمبالغات، ودخلت الحضارة عامة والآداب خاصة في دور ذلك التدهور الطويل الذي دام قروناً.
فالأدب العربي قد شهد الطورين الأول والثاني من أطوار النظام الحكومي التي تقدم ذكرها في صدر هذه الكلمة: طور الأرستقراطية في الجاهلية، وطور الملكية في الإسلام، فجاء في الطور الأول أكثره حماسي عصبي ممجد للقبائل وأبطالها، وكان قائلوه عادة من الأشراف ذوي المكانة، وظل في الطور الثاني مكفوفاً في حيز الحدود التي رضيتها له الملكية، منصرفاً عن أغراض كثيرة من أغراض الفن السليم، وترعرع الأدب الإنجليزي في الطور