صاحب النوال هي الوحي الأول الذي يدفع الشاعر إلى ملاحظة تلك المشاهد وتدبر تلك الحقائق.
ولاعتماد الأدباء في معاشهم على صلات الأمراء، وتوقف سعودهم ونحوسهم على رضى الأمراء وغضبهم، كثرت الشكوى في الأدب العربي، وأنحى الأدباء على ما أسموه الدهر ذماً وتقريعاً وتفنيداً، وعزوا أنفسهم بالتفاخر الأجوف، وطال ذمهم لحرفة الأدب، وما يزاملها من شقاء وحرمان؛ ولا ذنب للأدب، وإنما هم صيروه حرفة وما هو إلا فن، بل هبطوا به إلى ما دون الحرفة فصيروه تسولاً. أما في الإنجليزية فنرى جيبون مثلاً يسخر مر السخر ممن يزعمون أن الأدب أشقاهم ويعلن في صراحة واغتباط أن كتابه عن تاريخ الرومان كان خير رفيق له وسمير لروحه أعوام تصنيفه، ثم أناله من بعد ذلك صيتاً وضمن له بعد مماته ذكراً ما كان يستحقه بدونه.
أما من قنطوا من صلات الأمراء من بين شعراء العربية، وقعد بهم عجز حيلتهم عن الوصول إلى ساحات الملوك، فأما هجروا الشعر جملة وإما عكفوا على نظم أشعار الزهد، فغزر ذلك الضرب من النظم في العربية. وليس التزهيد في الحياة بأسمى رسالات الآداب، بل رسالتها الصحيحة الترغيب في الحياة والتعبير عن جمالها والدعوة إلى الاستمتاع به.
ولطمع الأدباء في جوائز الأمراء نزحوا من أطراف البلاد إلى العاصمة؛ فصارت دون سواها من المدن مجال الشعر وسوق الأدب، وخمد في غيرها نور الفنون؛ أما في إنجلترا فقلما هجر أديب بلده إلى لندن طلباً للحظوة والمال، بل هجر بعضهم مقامه بالعاصمة إلى منطقة البحيرات، فاستقر حيث الجمال الطبيعي والحياة الشعرية والوحي الصادق، وحيث عرش الطبيعة لا عروش المالكين.
ومن خلال المدح كان يتحدث شعراء العربية عن انتصارات الدولة في الحروب، فكل من أبي تمام والمتنبي وابن هاني الأندلسي يشيد بانتصار ممدوحه، وينسب إليه كل الفضل في تدبير الرأي والإقدام وهزيمة العدو ونصر الدين؛ أما في الإنجليزية فكان شعراء الوطنية أمثال كاميل وتنيسون وكبلنج يرون في انتصارات الدولة ظفراً للقومية الإنجليزية لا فخراً شخصياً للملك، فتغنى الشعراء بتلك الانتصارات، وشادوا ببسالة القواد وأمراء البحر الذين أكسبوا أمتهم مواقف الفخار، وقلما التفتوا إلى الملك أو خصوه بذكر.