من جهة، فأذالوا الشعر وملئوه بالأكاذيب، وعن امتهان الخلق الكريم من جهة، فمدحوا الظالم والقاتل ما دام في دست الحكم، وتقربوا إليه بذم أحفاد الرسول، وتملقوه بهجاء من فتك بهم من قواد ووزراء، وهجا البحتري الخلفاء المخلوعين ومدح من استعادوا العرش على التوالي، ومدح بشار العلوي الخارج على المنصور، فلما علم باندحاره حور القصيدة ومدح بها المنصور. وتحاسد الشعراء وتهاجوا لتنافسهم على جوائز الأمراء، على حين نرى في الإنجليزية أن شلي لما بلغه امتداح سوذي لملك إنجلترا في ذلك العهد امتداحاً متملقاُ، كتب إليه يوسعه توبيخاً ويجاهره بالقطيعة.
وإذا ندرت في الأدب العربي آثار انتصار الأدباء للشعب ومناصبتهم الملوك دفاعاً عنه، فلم تندر فيه أخبار الخارجين على الحكام طلباً للملك والمجد الشخصي كحكاية تميم بن جميل الذي أنشد بين يدي المعتصم تائيته البديعة التي مطلعها:
يعز على الأوس بن تغلب موقف ... يسل علىَّ السيف فيه وأسكت
ولم تندر أخبار الأدباء الطامحين إلى الملك كالمتنبي الذي خرج في صباه وظل يتوق إلى الخروج طول حياته، والشريف الرضى الذي باح مرة بدخيلة نفسه فأسقط عليه الخليفة، بقصيدته التي أولها:
ماُ مقامي على الهوان وعندي ... مِقوَل صارم وأنف حَمىّ
وما كان مثل ذلك ليكون في الأدب الإنجليزي: فالأدباء الإنجليز كانوا أشد حباً للأدب واعتداداً بمكانة الفن من أن يهجروهما إلى شيء آخر ولو كان هو الملك، كما كانوا من جهة أخرى أشد إخلاصاً لوطنيتهم ووفاء لسعادة بلادهم من أن يفكروا في اعتراض سبيل الحياة الدستورية التي رضيتها لنفسها، وما كانت الظروف لتعينهم لو حاولوا بأكثر مما أعانت أدباء العربية سالفي الذكر.
ولتزاحم شعراء العربية على صلات الملوك ومن تشبه بهم من الأمراء تجمعوا في المدينة وانصرفوا عن محاسن الطبيعة، فلم تفز من أغلبهم بكبير التفات. وقل مثل ذلك في شتى أبواب الشعر: فما يكاد يكون في أشعار الفحول وصف لجيش أو أسطول أو بحر أو بلد أو قصر أو منظر، أو رثاء أو حكمة أو تفكير في الحياة والموت، إلا مرئياً كل ذلك من وجهة نظر الممدوحين وجارياً في أطواء مدحهم والترنم بما حازوا من رفيع الشأن، فكانت مدحة