عنه طير، أو مثل ذلك مما لا يأخذ في طريق الممتنع الصريح، فتوقف ولا تتعجل، فان لأمثال هذه أسباباً في أسرار الطبيعة، وربما يتأتى لي أن أقص بعضها عليك). وهذه الأسباب، في رأي ابن سينا، ليست شيئاً آخر سوى ان النفوس السامية وقد تجردت عن المادة وصعدت إلى سماء الأرواح تستطيع التأثير في العالم الخارجي مثل نفوس الأفلاك وعقولها. وأثرها هذا خاضع في الواقع للإرادة الإلهية وفيض من العناية الربانية. فالمعجزة وإن خرجت على المألوف في ظاهرها هي أثر من آثار القوى المتصرفة في الكون. وكأن ابن سينا أحس بأن هناك أشخاصاً سيتمادون في طريق الفروض العقلية ويرفضون هذه التفسيرات الروحانية، فعاد في آخر بحثه ودعاهم إلى التأني والتدبر والبحث والتمحيص قبل الإنكار والقطع بالاستحالة، وختم إشاراته بتلك النصيحة الذهبية الغالية التي يجب أن يضعها كل باحث وكل مفكر دائماً نصب عينيه. يقول:(إياك أن يكون تلبسك وتبرؤك عن العامة هو أن تنبري منكراً لكل شيء فذلك طيش وعجز، وليس الخرق في تكذيبك ما لم تستبن لك بعد جليته دون الخرق في تصديقك ما لم تقم بين يديك بينته. بل عليك الاعتصام بحبل التوقف، وإن أزعجك استنكار ما يوعاه سمعك ما دامت استحالته لم تبرهن لك. والصواب لك أن تسرح أمثال ذلك إلى بقعة الإمكان، ما لم يذدك عنها قائم البرهان، واعلم أن في الطبيعة عجائب، وللقوى العالية الفعالة والقوى السافلة المنفعلة اجتماعات على غرائب)
درس ابن سينا نظرية النبوة في البحث الأخير من الإشارات فجاءت درة العقد وإكليل الكتاب، وأفاض عليها من فصيح بيانه وقوة برهانه ما منحها سلطاناً فوق سلطانها وقوة إلى جانب قوتها، ويغلب على ظننا أن كل فلاسفة الإسلام اخذوا بها. ومما يؤسف له أنه لم يصلنا شيء عن ابن باجة وابن طفيل يوضح موقفهما إزاءها، إلا أن نزعتهما التصوفية ورغبتهما الأكيدة في التوفيق بين الفلسفة والدين تدفعنا إلى القول بأنهما كانا يسلمان بها ويدعوان إليها، أما ابن رشد فقد عرض لها في تهافت التهافت مفنداً لاعتراضات الغزالي ومدافعاً عن الفلاسفة القدامى والمحدثين، وهو يرى أن هذه النظرية وإن تكن من صنع فلاسفة الإسلام وحدهم مقبولة في جملتها، ولا وجه للغزالي في الاعتراض عليها، وما دمنا نسلم أن الكمال الروحي لا يتم إلا باتصال العبد بربه فلا غرابة في أن تفسر النبوة بضرب