استورد أهل الشمال من الجنوب عجولاً، فلما رعت هذه العجول في الحقول ونزحت عنها، وحل محلها قطعان من بقر شمالي، لم يمض على هذا البقر ثلاثون يوماً أو نحوها حتى أخذ يموت، ولم تمض عشرة بعد أيام ذلك حتى عمه الموت.
أي موت غريب هذا الذي حملته الأبقار الجنوبية إلى الحقول الشمالية دون أن تصاب هي به، فاختبأ بعد ذلك في مخابئ الأرض يتربص لأبقار الشمال ليذيقها عذاب الموت ألواناً؟ وما السر في أنها إذا طلعت على هذا الموت المخبوء لا يبادرها بالهلاك بل يتمهل شهراً أو يزيد؟ وما السر في أن هذا الهلاك لا يحيق بها إلا في أشهر الصيف الحرار.
وثارت ثائرة الأمة كلها من أجل هذا، وساءت العلاقة بين أصحاب البقر في الشمال وأصحاب البقر في الجنوب. وهاجت مدينة نيويورك وارتاع أهلها لما جاءت الأنباء بموت مئات من الأبقار في القطر التي كانت تحملها من الغرب إليها لتغتذي من لحومها. وتحرج الموقف، وصار لا بد من عمل شيء، فنهض الأطباء الفخام في مصلحة الصحة للمدينة العظيمة وأخذوا في البحث عن المكروب الذي سبب هذا الداء. . .
وكان في الغرب طائفة من البقارين كسبوا الحكمة من طول تربيتهم للبقر، فخالوا لهذا الداء علة أوحيت إليهم إيحاء من خلل الدخان المتصاعد من نراجيلهم وهم يتأسون بتدخينها فوق الجثث المركومة التي أضاعوها بسبب هذا الداء. خالوا في شيء من الإبهام أن هذه الحمى التكساسية تسببها حشرة تعيش على جلد البهيمة وتمتص دمها، وأسموا هذه الحشرة القرادة
وضحك الأطباء العلماء في مصلحة الصحة بالمدينة العظيمة، وضحك معهم كل بيطري ممتاز في المحطات التجريبية الحكومية.
قرادة تقدح حمى! حشرة تخلق داء، من ذا الذي سمع بهذا أبداً! وأي علم يرضاه؟ إنها حماقة بالغة! وقال الدكتور جامجي وهو عمدة في الموضوع معروف: إن تفكيراً يسيراً قصيراً يقنع كل أحد بسخافة الفكرة. وكان قائماً قاعداً في بحث حمى تكساس، ولكن لفظة القراد لم تخرج من فيه أبداً. وكان العلماء في كل نواحي القطر قائمين في تقطيع أجسام الأبقار النافقة وكانوا يجدون البشلات في بطونها، ولكنهم لم يستخرجوا منها قرادة واحدة! قال أحدهم: إن روث البهائم ينشر بينها الحمى، فقال الآخر: إنك مخطئ، بل إن اللعاب ينقلها. وهكذا تعددت النظريات بتعدد الباحثين، وظلت الأبقار تموت وهم يختلفون.