للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

المكية الظاهر فيها أسلوب الدعوة الحارة المفتنة، والجدل القوى الغلاب، وهي سورة الإسراء، إن كلمة القرآن تكررت فيها نحو ثمان مرات. والفرق بين العهدين ظاهر، ففي العهد المدني كان اسم (القرآن) قد ثبت وتقرر وأخذ ذلك المعنى المحدود فلم تعد الحاجة ماسة إلى تكراره وإشاعته، كما في العهد المكي

إن قول المستشرق في إنكار كلمة (القرآن) يرجع - فيما أحسب - إلى أصلين: أحدهما قولهم في القرآن إنه يصدر عن أصول أجنبية كالتوراة والانجيل، فمن هنا لا يرون بأساً في أن يكون القرآن قد استعار عنوانه من هذه المصادر أو من اللغة التي كتبت بها، ولاسيما إذا عزز هذا الأصل الثاني المقرر لديهم وهو عدم ورود كلمة قرآن في نص جاهلي، وبعد الذي تقرر من صيغة فعلان صيغة عربية صريحة لا يكون لهم إلا إنكار مادة قرأ بمعنى القراءة في اللغة العربية الخالصة ' وقد يكون لهم عذرهم في هذا، فأن من العسير حقاً أن نعثر فيما بين يدينا من النصوص الجاهلية على مادة القراءة، وإني أقطع بأن هذه المادة لم تجيء في المعلقات العشر، وإنما وردت كلمة (تقرأ) في بيت عمرو بن كلثوم على رواية أبي عبيدة، ولكن هذا من واد آخر

ولكن هبه صحيحاً أن مادة القراءة لم ترد في نص جاهلي آخر، فهل يدل هذا دلالة قاطعة على عدم وجود الكلمة في اللغة؟ إنما يكون هذا لو أن الأدلة انحصرت في النص وحده، وليس النص هو كل شيء، فالوقوف عنده يؤدي بنا من غير شك إلى الخطأ في الاستنتاج.

لم تكن العرب قبل الإسلام أمة كتلك الأمم التي تعيش في حالة أولية، وإنما كانت أمة تجارة تتعامل بتجارتها مع أمتي التاريخ الكبريين: الفرس والروم على معرفة وبصيرة، وكانت مكة بصفة خاصة مركزاً من المراكز الكبرى لهذه التجارة الواسعة النطاق، وكانت المظاهر التجارية فيها بارزة في حياتها بروزاً كبيراً مما دعا الأب لامنس إلى تلقيبها في كتابه عنها بالجمهورية التجارية. وهذه الحياة التجارية تعتمد إلى حد كبير على الكتابة - ولن تكون كتابة بغير قراءة - فمن الغريب جداً الحكم بأن لغة العرب لا تحتوي على ما يدل على هذا المعنى. وإن النصوص الجاهلية نفسها تدل على أن العرب قد اتخذوا الكتابة، لا في الوثائق التجارية فقط، بل في عقد المحالفات بين القبائل المختلفة، وحسبنا ما قاله الحارث بن حلزة في شأن بكر وتغلب:

<<  <  ج:
ص:  >  >>