صدقوني، أيها الأخوة، إن الجسد قد قطع رجاءه من الجسد، فغدا يجس بأنامله مواضع الروح المضللة، وذهب يتلمسها من وراء الحواجز القائمة على مسافة بعيدة.
صدقوني، أيها الأخوة، إن الجسد قد تملكه اليأس من الأرض فسمع صوتاً يناديه من قلب الوجود، فأراد أن يخترق برأسه أطراف الحواجز، بل حاول العبور منها إلى العالم الثاني، غير أن العالم الثاني جد خفي عن الناس لأنه بتخنثه وابتعاده عن كل صفة إنسانية ليس إلا سماء من العدم. إن قلب الوجود لا يخاطب الناس إذا لم يكلمهم كإنسان.
والحق إنه ليصعب علينا إثبات الوجود واستنطاقه. أجيبوا أيها الأخوة، أفما يلوح لكم أن أغرب الأمور أثبتها دليلاً؟. . .
أجل! إن هذه الذات على ما فيها من تناقض واختلال تثبت بكل جلاء وجودها فتبتدع وتعلن إرادتها لتضع المقاييس وتعين قيم الأشياء، وما تطلب هذه الذات في إخلاصها إلا الجسد حتى في حالة استغراقه في أحلامه وتحفزه للطيران بأجنحته المحطمة
إن هذه الذات تتدرب على الإفصاح عن رغباتها باخلاص، وكلما ازدادت تدرباً ألهمت البيان للإشادة بالجسد وبالأرض.
لقد علمتني ذاتي عزة جديدة أعلمها الآن للناس: علمتني ألا أخفي رأسي بعد الآن في رمال الأشياء السماوية، بل أرفعها رأساً عزيزة ترابية تبتدع معنى الأرض.
إنني أعلم الناس إرادة جدية يتخيرون بها السير على الطريق التي اجتازها الناس عن غباوة من قبلهم؛ أعلمهم أن يطمئنوا إلى هذه الطريق فلا تنزلق أرجلهم عنها كما انزلقت أرجل الاعلاء المتهكمين، وما هؤلاء إلا من ابتدعوا الأشياء السماوية واخترعوا قطرات الدماء المراقة لافتداء البشر. على أن هذه السموم التي أخذوا بلذتها ورهبتها لم يستخرجوها إلا من الجسد ومن الأرض.
لقد شاءوا الفرار من الشقاء وتراءت لهم الكواكب بعيدة صعبة المنال فوجموا يدفعون بالزفرات قائلين: وا أسفاه! لم لا تنفتح أمامنا سبل في السماء ننسحب عليها إلى وجود آخر وسعادة أخرى.
في ذلك الحين اخترعوا أوهامهم وكؤوسهم الصغيرة المترعة بالدماء. . . وحسب هؤلاء