مغارات ومجالس جهزت كلها بنوافير من المياه تنبثق من كل نواحيها في أشكال وأوضاع ساحرة؛ ورتبت هذه النوافير والمنابع الخفية في حديقة القصر حول المماشي والأحراج بنفس البراعة والدقة، فكنا نتصور حين تطلق المياه من منابعها الخفية أننا أمام سحر ساحر؛ وفي المغارات والمجالس تماثيل بارزة وصور من الفسيفساء صنعت على مثل صور كنيسة القديس مرقص بالبندقية. وأما القصر ذاته فهو صرح فخم من صروح القرن السابع عشر، وقد زينت غرفة وأبهاؤه بطائفة من الصور الثمينة ومجموعات من الأثاث القديم الذي يرجع إلى عصر إنشائه، وزينت سقفه بالأخص بصور ونقوش بديعة تأخذ الألباب بدقتها وروعتها.
وقد فهمنا من دليل القصر، أن الذي أنشأ هذا الصرح الفخم أسقف سالزبورج في ذلك العصر، وأنه هو الذي أشرف على زخرفته وتنسيقه على هذا النحو المدهش؛ ويقع القصر وسط بستان شاسع نظمت في إحدى جوانبه حظيرة ترتع الغزلان في جنباتها، ويؤمها زوار القصر للتفرج ومداعبة الغزلان
وعلى الجملة فإن هذه المدينة الصغيرة - لأن سالزبورج مدينة صغيرة لا يتجاوز سكانها أربعون ألفاً - تبدو بفنادقها الأنيقة، وطرقها وميادينها المنسقة في ثوب خاص من الحسن والرشاقة، ينم عن حسن ذوق أهلها وسلطاتها البلدية، ويزيد في سحر سالزبورج ومتاع الإقامة فيها، فضلاً عن روحها الموسيقي، ما فطر عليه أهلها من الأدب الجم والشمائل الرقيقة. وهذه في الغالب أخلاق أهل المدن السياحية؛ بيد أنك تشعر في سالزبورج أن هذه الخلال الحسنة ترجع إلى الفطرة أكثر منها إلى مقتضيات المعاملة، وتشعر أنها بعيدة عن الرياء المعسول الذي تأنسه في المجتمعات السياحية الأخرى
وغادرنا سالزبورج لأيام قلائل، وقد ترك بللها المنعش، وموسيقاها الساحرة، وذكرياتها السريعة الممتعة في النفس أجمل الأثر