للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فرساي وتأمين السلام في الحدود الفرنسية الألمانية؛ وحطمت ألمانيا بذلك آخر القيود العسكرية والسياسية التي فرضت عليها في معاهدة الصلح. ومهما قيل في تبرير هذا النكث من جانب ألمانيا وكونها حملت عليه مضطرة لتقضي بذلك على الأغلال الظالمة التي فرضتها عليها معاهدة الصلح، والانتصاف لسياستها القومية، وكرامتها كدولة عظمى، فإنها بلا ريب قد عملت أكثر من أي دولة أخرى لتمزيق العهود والمواثيق الدولية، ولتقويض أسس الثقة بين الأمم وإضعاف هيبة القانون الدولي؛ ولا ريب أنها قد أعادت للعالم ذكرى اعتدائها على البلجيك في سنة ١٩١٤ وذكرى نظريتها الشهيرة في المعاهدات الدولية بأنها (قصاصات ورق) لا يعتد بها

فهذه الظواهر والظروف الخطيرة تهز اليوم أسس الدستور الدولي الذي عاشت القارة الأوربية في ظله منذ معاهدة فينا، - أعني منذ قرن وربع - وتدفع بها إلى طريق جديد لم تتضح طوالعه بعد. بيد أن هنالك ما يدل على أن هذا المصير الذي تتهيأ أوربا لاستقباله سيكون هائلاً مروعاً؛ فالدول العظمى تستعد كلها لخوض أعظم معارك عرفها التاريخ؛ والدول الصغرى ترتجف كلها فرقاً من المستقبل، وتحسب لاعتداء القوة المسلحة أعظم حساب؛ وهي لا تستطيع أن تعتمد على قوة المواثيق والضمانات الدولية كما كانت في الماضي بعد الذي رأته من عبث بعض الدول العظمى بكل هذه المواثيق والضمانات، ولكنها تزمع في جميع الأحوال ألا تسقط دون دفاع: فالبلجيك وهولندة وتشيكوسلوفاكيا والنمسا وسويسرة وغيرها من الدول الصغيرة تجد في تسليح نفسها بكل ما وسعت، وبعضها مثل البلجيك وهولندة ينظر بمنتهى الجزع إلى مصير أملاكه الاستعمارية الواسعة؛ على أن هذه الدول تندمج غالباً في إحدى الجبهتين الأوربيتين اللتين تستعدان لخوض المعركة القادمة، ومصيرها يتوقف على مصا ير المعركة ذاتها.

وقد فقدت أوربا القديمة زعامتها العالمية، وفقدت حتى زمام سياستها الخاصة؛ فاليوم نجد دولة أوربية عظمى هي ألمانيا تحالف دولة أسيوية عظمى هي اليابان ضد روسيا وضد الجبهة الأوربية التي تندمج فيها. وهذا تطور خطير في سياسة أوربا التقليدية التي حرصت دائماً أن تواجه الشرق متحدة؛ وهذه ظاهرة تعود بنا إلى القرن السادس عشر والسابع عشر حينما كانت فرنسا تستعين بمحالفة الدولة العثمانية على قتال خصومها

<<  <  ج:
ص:  >  >>