النفس تأثيره، وإنما هي أدنى إلى الصناعة؛ لها كالصناعة غرض مادي تؤديه وغاية خارجية تخدمها. ولا غرو كان العرب يسمون النظم والنثر بالصناعتين، ويعدون الأدب (صناعة) أو (آلة)(يتعاطاها) صاحبها، ولم يكن لكلمة (الفن) لديهم ما لها اليوم من المعنى السامي
بلغ الأدب العربي مرتبة الفن السامي في عصر الجاهلية، حين كان أشراف القبائل وحكماؤها يودعون الشعر حكمتهم وإطرابهم وأحزانهم؛ فلما قامت الدولة العربية صحبتها عوامل لم تكن لتساعد على اطراد رقي الأدب في وجهته الصحيحة، بل عملت في غير ناحية على تقهقره وفقدانه ما كان له من الجاهلية من قوة وصدق وسمو، وهي سمات الفن الصحيح، حتى أصبح من السهل تقسيم الآثار الأدبية، بل تقسيم أثار كل أديب مفرد، إلى قسمين: قسم صادق يصدر عن شعور صحيح ويدخل في دائرة الفن السليم، وقسم كاذب مملوء بالمفارقات والمبالغات يمت إلى الصناعة ولا يمت إلى الفن
وأول تلك العوامل ذيوع التكسب بالشعر، فأنه جعل للشعر غرضاً سوى التعبير عن خوالج النفس الذي هو غرض الفنون جميعاً، وصير له غاية مادية هي صلة الممدوح التي قامت مقام الحافز النفسي والشعور الصادق، فسارع إلى الشعر الكذبُ والمبالغة، وهبط عن مرتبة الفن السامي وصار صناعة تمارس ويبرّز فيها ذوو اللباقة والمهارة، لا أصحاب العبقرية والنفوس الكبيرة؛ وداخل النثر من هذه السمات ما داخل الشعر، لأنه مثله سخر نفسه لخدمة الحاكمين
وثاني العوامل هو نزعة المحافظة والتقليد، التي سرعان ما تمكنت من الأدب العربي، حين أشفق العرب على أدبهم ولغتهم ودمائهم مما اجتاحها من هجنة الأعاجم الداخلين في دينهم ولسانهم ومجتمعهم؛ أدى ذلك إلى الضن الشديد بآثار المتقدمين والتبجيل العظيم لأشكال الأدب وصوره في عهدهم، والإعجاب المطلق بأشعارهم وخطبهم ذات اللغة الفصيحة السليمة؛ وتمادى الشعراء فقلدوهم في وعورة الألفاظ أحياناً، وفي المعاني وضرب الأمثال والاستهلال بالنسيب، وتمادى الكتاب فأنحوا على آثار المتقدمين محاكاة واقتباساً وتضميناً؛ وفي مثل هذا الجو من المحافظة والتقليد يخمد الفن الصحيح الذي يصدر عن صادق الشعور، ولا يسود إلا الصناعة التي تتكلف الألفاظ وتتعمل المعاني