وثالث تلك العوامل اعتزال الأدب العربي غيره من الآداب، فهو قد أهمل الأدب اليوناني ولم يتأثر بالأدب الفارسي، إلا قليلاً عن غير قصد، واتصال الأدب بغيره من آداب الأمم شرط أساسي لدوام رقيه في معارج الفن السليم، لأن ذلك الاتصال يدخل في الأدب صادق النظرات والأفكار، التي تشترك فيها الإنسانية جمعاء على اختلاف المشارب واللغات، دون التفات إلى زخارف الألفاظ وتلفيقات المعاني، التي لا تمت إلى الطبع السليم بصلة، ولا تتعلق من الفن الصحيح بسبب. واعتزل الأدب غيره ينحرف به شيئاً فشيئاً عن وجهة الفن القويمة، ويميل به إلى ناحية التكلف والتعمل والتقليد والجمود والصناعة.
ولما كان الكاتب يكتب والشاعر ينظم ونصب أعينهما غايتان: إرضاء صاحب السلطان الذي تسخر له الأقلام، وإرضاء النقاد الذين لا يريدون عن مناهج الأولين حولاً، لم يسعهما إلا الإقلاع عن محاولة التعبير عن شعورهما الصادق، واللجوء إلى محاولة إظهار البراعة ليرضيا الفريقين، فصارت البراعة - لا صدق التعبير عن الشعور - هي غاية الأديب. فالبحتري وابن المعتز والبديع وابن العميد والحريري وأضرابهم، قلما نظموا أو نثروا بغية التعبير الصادق البسيط عن مشاعر حارة تعتلج في نفوسهم ولا يستطيعون لها حبساً، وإنما كان إبداء البراعة وطلب الإعجاب وتحري الأغراب ديدنهم في معظم ما أنشئوا، وكتاباتهم لذلك - حتى حين يجيدون - فاترة الشعور باردة الوقع لا تنفذ إلى القلب ولا تهز النفس، ربما أوحت إلى المطالع أن أصحابها بارعون، ولكن قلما توحي إليه أنهم نوابغ عظماء ذوو نفوس كبيرة ونظرات بعيدة
ولما جهد الأدباء في تقليد معاني الأقدمين ومناحيهم، واختراع أوصاف الممدوحين ومحامدهم، حتى لم يَعُدْ في مجال المعاني متسع لتكلف، التفتوا إلى الألفاظ يطلبون في مجالها السبق والبراعة، ففشت المحسنات اللفظية، فكانت انحرافاً جديداً للأدب عن جادة الفن القديم؛ وشغل الأدباء بالسجع والجناس والمقابلة وحسن التعليل عن صدق الشعور وصدق التعبير، وركبت الصناعة الأدب من ناحيتيه: ناحيتي المعنى واللفظ
وطلب الأدباء البراعة من طريق آخر: فأقحموا في الأدب ما ثقفوه من مصطلحات العلوم ومسائلها، كعلوم النجوم والكلام والنحو والمنطق، فتجلت البراعة فيما أنشئوه من ذلك ولكنه فقد دبيب الحياة، فمن تقليد قضايا المنطق قول المتنبي: