تقولين ما في الناس مثلك عاشق ... جِدِي مثل من أحببته تجدي مثلي
وقول الشاب الظريف:
رمى فأصاب قلبي باجتهاد ... صدقتم: كل مجتهد مصيب
ومن استخدم مصطلحات النحو قوله:
لأي شيء كسرت قلبي ... وما التقى فيه ساكنان؟
ووقر في نفوس كثير من الأدباء أن الأدب مجال للصناعة والبراعة، وليس مظهراً لأحاسيس النفس ولا مستودعاً لخوالجها. فإذا أعوزهم ممدوح يثنون عليه بما هو ليس أهله من المبالغات، طلبوا البراعة واصطنعوا التظرف بوصف أمر تافه، كحَمل هزيل أو قدح خمر أو محبرة أو يراع، إلى غير ذلك مما لا خطر له في ذاته، ولكنه يمنح الفرصة لطلاب البراعة ليُظهروا لطافة بديهتهم وحسن محاضرتهم ووفرة محصولهم اللغوي. وكثيراً ما كانوا يتبادلون ذلك في الرسائل الإخوانية، والكتب التي يستهدون فيها الخمور والأقداح والمزاهر والقيان
ولإصدار الأدباء في كتاباتهم عن أغراض مصطنعة بعيدة عن غرض الفن الصحيح نجد الكثيرين منهم يقفون مواقف متناقضة: فيمدح أحدهم الرجل أرفع المدح ثم يذمه أقبح الذم، فأن خاف بطشه عاد مستغفراً متزلفا يقول كما قال الأعشى:
سأمحو بمدح فيك إذ أنا صادق ... كتاب هجاء سار إذ أنا كاذب
ويطلب أحدهم البراعة بتحسين القبيح وتقبيح الحسن، أو بمدح الشيء الواحد وتحسينه ثم ذمه وتقبيحه، كما فعل الحريري حيث جعل أبا زيد يمدح الدينار بمقطوعة من الشعر، ثم يذمه بأخرى حين اقترح عليه بعض الحضور أن (يذمه ثم يضمه)، ويدّعى المتنبي الغرام والصبابة والنحول في مطالع أماديحه، فإذا أفصح عن صادق شعوره وميوله قال إن المجد ليس زقا وقينة، وأن للخود منه ساعة ثم بينهما فلاة، وأنه يرى جسمه يكسى شفوفاً تَرُّبه، وقال:
ومن خبر الغواني فالغواني ... ضياء في بواطنه ظلام
وجاء النقاد فأقروا الشعراء على هذا التناقض، وأباحوهم ضروب اللغو والهذر، وأخذوا تلفيقاتهم في قصائد المديح مأخذ الجد، وأضاعوا وقتهم ومنطقهم وحججهم في الموازنة