للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

والمفاضلة بينها، وفضلوا شاعرا على شاعر، لا لصدق شاعر يته وصدق فهمه للحياة، ولكن لبراعته في احتيال الحيل اللفظية والمعنوية لتفخيم شأن ممدوحه. فقدامة بن جعفر مثلا يقدم الأعشى في قوله في ممدوحه:

وإذا تجيء كتيبة ملمومة ... شهباء يخشى الراهدون نهالها

كنت المقدم غير لابس جُنة ... بالسيف تضرب مُعْلَما أبطالها

على كثير لقوله في ممدوحه:

على ابن أبي العاصي دِلاص حصينة ... أجاد المُرَئ نسجها وأذالها

يود ضعيف القوم حمل قتيرها ... ويستظلع القرم الأشم احتمالها

لأن الأول جعل صاحبه يغشى الوغى غير مدرع، والثاني وصف صاحبه بالتحصن وراء الدروع الثقيلة، يفاضل قدامة بينهما بصرف النظر صرفا تاماً عما إذا كان المعنى المذكور في كل حالة صحيحاً، فالمسألة لا تتعلق لديه بالتزام الصدق، بل البراعة في الاختراع والمبالغة وتهويل أمر الممدوح ووصفه بكل عظيمة صحيحة أو مزعومة، ممكنة أو مستحيلة

وبهذا المقياس المجحف الذي لا يقيم اعتباراً لصدق الشعور والتعبير، بل يجعل الاعتبار كل الاعتبار للبراعة واللباقة والخفة والاحتيال، قاس كثير من النقاد آثار الأدباء وفاضلوا بينهم. بل إن النقاد صرفوا جل اهتمامهم إلى ذلك الضرب الصناعي من الأدب الذي قوامه التعمل والاختراع، وعماده الأقيسة المنطقية، بل المغالطات المنطقية، وأهملوا الضرب الصادق الذي يُترجم عن شعور الأدب الصحيح. فإذا رأوا أثراً من هذا القبيل مروا به كراماً ولم يروه أهلا للنقد والتحليل، لأنهم يرونه بسيطاً عادياً غير محتو على براعة لفظية أو معنوية. والأدب كان في نظر كثير منهم صناعة لا فناً. وقد سمى أحدهم وهو أبو هلال العسكري كتابه في أصول الشعر والنثر: (كتاب الصناعتين)

والحق أن أكثر ما يعرف اليوم بالفنون الجميلة كان لدى العرب صناعات؛ فالأدب والموسيقى والعمارة والنحت والتصوير كل هذه كانت أشبه بالصناعات، لأنها كانت في أكثر الأحيان تخدم أغراضاً مادية خارج ذاتها، وكانت تنتج نتاجها في ظلال الملوك والكبراء الذين يسخرونها لأبهتهم ومتعتهم، ولم تنل من الاستقلال الفني والغرض الذاتي ما

<<  <  ج:
ص:  >  >>